فمنذ أن انطلقت دعوة التوحيد من مكة المكرمة، والتاريخ يرصد أحداث الإسلام، ويسجّل أحواله المتتابعة والمتلاحقة، ويرمق بعين الشاهد الأمين تقلّب أحوال المسلمين. وقد تعجّب المؤرِّخون والراصدون لمسيرة المسلمين عبر القرون والدهور، فيرون أحوالهم كأمواج البحر، أحياناً هادئة تعلوها سماء صافية وشمس مشرقة، وأحياناً أخرى تكون أحوالهم كالموج الثائر والشّلاّل الهادر والعواصف العاتية، وكالليل المظلم الذي طال سواده. ويرقبهم التاريخ عن كثب، فأحياناً يجدهم أمّة متّحدة تحت سقف الخلافة الراشدة، وحيناً يراهم ممزّقين في دويلات صغيرة متحاربة ومتنافرة. ويشاهد التاريخ المسلمين وهم يرتدون رداء العقيدة، ويتزيّنون بلباس التقوى، ويكتسون بكساء القوة والعزة، فعبؤوا قُواهم، وحشدوا طاقاتهم، وتحصّنوا بدينهم، فتقهقرت أمامهم جيوش، وطويت تحت أقدامهم ممالك وأمم ترى نور الإسلام في مقدمهم والرحمة تتقدّمهم.
وفي مراحل أخرى، يأسف التاريخ لهم، ويحزن عليهم، ويسكب دموعه، حينما يرى الحقد الأسود والغلّ الدفين تنطق به عيون الدّول مِن حولهم، ويتنمرون بهم فيحتلّون أرضهم ويستعبدون شعوبهم، وينهبون خيراتهم.
ولكن ما يلبث التاريخ والمؤرّخون الذين يرصدون حركة الإسلام ويراقبون أحوال المسلمين ويسجّلون أحداثهم، أن يفاجَؤوا بالحياة تدبّ في أوصال الشعوب الإسلامية، وتسري في عروقهم حرارة الإيمان، فتتعالى صيحات اليقظة وتتنادى أصوات الصحوة، ويستجيب المسلمون في المشارق والمغارب، فيهبّ الإسلام واقفاً على قدميْه، شامخ الرأس، يُعيد سالف مجْده وسابق عظمته، موثقاً الإنسانية بعُرَى وحي السماء ورسالات الأنبياء، وأحداث التاريخ خير شاهد على ذلك.
والله -تبارك وتعالى- يقول عن حركة التاريخ الإسلامي، وعن حركة سيادة المسلمين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ