لقد خاطب القرآن العقل ليدله على وجود الله، وحض الإنسان على التدبر في الكون، وفي نفسه ليدله على أن الله وحده الذي يستحق العبادة، ولفت النظر إلى قياس البعث في الآخرة على الخلق الأول، والنشأة الأولى، ليبرهن بالاستنتاج العقلي على صحة عقيدة البعث، والجزاء والجزم بها، وأمره أن يتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آثار الأقوام السالفة، وأنزل القرآن لنعقل معانيه ونتدبر آياته، وأنكر على الذين لا يستعملون عقولهم في الفهم والتفكير السليم، ووصفهم بالصم والبكم والعمي؛ لأنهم لم يفكروا فيما نقلته إليهم حواسهم من المرئيات والمسموعات، وأبوا أن ينطقوا بالحق الذي يمليه عليهم عقلهم لو سمحوا له بالتفكير والتدبر، فهم عمي عن إبصار الحق، أو ما يؤدي إليه من آيات الله في الآفاق، صم عن سماع الحجج، والتفكير في مصيرهم.
ولو ذهبنا نحصي الآيات التي وردت فيه كلمات "تعقلون، يعقلون" لوجدنا "46" آية، أو موضعا في القرآن و"14" موضعا لكلمة "يتفكرون، تتفكرون" و"13" موضعا وردت في كلمة "يفقهون"، وكل هذه الآيات جاءت إما للحض على التفكير، وإما لمخاطبة العقلاء دون سواهم من الذين لا يريدون أن يعقلوا أو يتفكروا، وورد الحض على تدبر القرآن في أربع مواضع من القرآن.
وورد تخصيص أولي الألباب بالموعظة، والحض على التقوى، والاعتبار بقصص القرآن، وبدلائل قدرة الله في الكون وبالتذكر، والعبرة بالقصاص، وبالهداية "16" مرة، وقد أوردنا عددا من هذه الآيات عندما بحثنا في أسس التربية الإسلامية.
وهكذا نلاحظ أن التربية الإسلامية، في سبيل تحقيق هدفها الأسمى، وهو الإيمان بالله والخضوع له، وتذكر عظمته كلما نظر الإنسان إلى الكون، أو إلى نفسه؛ تدعو العقل إلى ممارسة حقه في البرهان والاقتناع، والتأمل والملاحظة، واستخدام الحجج المنطقية، كما تدعوه إلى استخدام ما سخر الله له في الكون، ودراسة القوى الكونية بقصد معرفة سننها للاستفادة منها، أي أنها تنمي العقل على أفضل أساليب النمو، ولكنها لا تسمح للعقل بالغرور، والتكبر عن قبول الحق، والصمم عن سماع الحجة المنطقية، في سبيل التشبث بالأهواء والشهوات، أو التحجر والتصلب