إلا أنه في هذه الإشارة العابرة لم يعتمد على مبدأ، أو معيار للخير أو الشر، وحتى لو أنه وضع مبدأ، لاختلف في ذلك مع غيره من المربين والفلاسفة، ولا يزال الناس يختلفون، فلا بد من معيار إلهي يجمع عليه البشر في هذا الموضوع؛ لأن معايير الناس تختلف باختلاف ظروفهم الاجتماعية، والنفسية والعائلية، ولا يصلح واحد منها لتربية جميع البشر.

أما كيف يشتمل هدف التربية الإسلامية، وهو إخلاص العبادة لله، على هدف "تحقيق الذات"، فإليك تفصيل ذلك:

أ- عندما كلف الله الإنسان بعبادته، كلفه على أساس أنه مميز بين الخير والشر، وقد بين له نتيجة طريق الخير يوم القيامة، ونتيجة طريق الشر، وفي هذا كل التقدير لذاتية الإنسان، ذلك أن الله جعله مميزًا مختارًا، أي أعطاه حرية الاختيار، ثم بين له مسئولية عن هذا الاختيار.

ب- أنه ترك مجال التسابق إلى الخيرات مفتوحا لجميع الناس، وجعل مبدأ الجزاء على حسب العمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالله يحاسب على كل مثقال ذرة من أعمال الناس، ثم يضاعف لمن يشاء، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، أي بالعمل الذي يحقق الخوف من عقاب الله، والخشوع والطاعة لله.

ج- أنه جعل الهدف الأسمى وهو "طاعة الله وعبادته" هو معيار التمييز بين الذاتية الخيرة، والذاتية الشريرة، أو التمييز بين تحقيق الذاتية في سبل الخير، وتحقيقها في سبل الشر، وتفاصيل هذا المعيار منشورة في كتب الفقه والتوحيد، وفي آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهكذا لم يترك الإسلام هدف تحقيق الذاتية والحرية، مطلقًا من غير ضابط، بل اعتبر ذلك الهدف وسيلة لهدف أسمى منه، وهو في الواقع وسيلة، وليس غاية مطلقة، فإذا سألنا كل ماهر في الطب مثلا، لماذا ينمي مهارته هذه أي يحقق "ذاتيته الطبية"؟؟ لأجاب بحسب غايته الضيقة، إما "لجلب المال"، وإما "للشعور بالتفوق"، أما الطبيب المؤمن فهدفه تحقيق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي؛ لأن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015