قلت له: سكتَّ أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله، مع عادتك على الرد على أمثاله؟! فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له لنظر في كتبه وسار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك"، يعني لم أراجعه فيما قال؛ لأني لا أريد إصلاحه، أريد أن يظل على جهله الذي كشف عنه إنكاره لعلم ذلك الرجل، وهو الجاحظ.
وقد وضحت ثقافته من خلال مؤلفاته الكثيرة، التي أوصلها البعض إلى ثلاثمائة وستين كتابًا، وكل كتب الجاحظ منارات يهتدى بها، وابتكارات تدل على عبقريته، يشهد بفضلها ابن العميد في قوله السابق، كما شهد بفضلها المسعودي حيث قال: "وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ".
ومن كتبه كتاب (الحيوان)، وكتاب (البيان والتبيين)، وكتاب (البخلاء)، وكتاب (مسائل القرآن)، وكتاب (فضيلة المعتزلة)، وكتاب (الرد على النصارى)، وكتاب (العرجان والبرصان)، وكتاب (الكيمياء)، وأشهر كتبه هو كتاب (الحيوان) ثم (البيان والتبيين)، فهما يمثلان زبدة فكره وخلاصة علمه.
وقد عَمَّر الجاحظ حتى شارف المائة، وأصيب في آخر أيامه بمرض الفالج، ولم يمنعه ذلك من الدرس والتصنيف، وبينما هو يقرأ ذات ليلة بإحدى الحوانيت انهالت عليه الكتب فدفن تحتها، ومات شهيد العلم سنة مائتين وخمس وخمسين للهجرة.