أما عن المؤلف وهو كتاب (البيان والتبيين)؛ فإنه يعكس اهتمام العرب في عصره بصناعة الكلام، وأساليب الفصاحة والبيان، وفنون الجدل والمناظرة والتمرس بالخطابة، حيث أشار فيه صاحبه إلى حاجة المتكلم الماسة للبيان، كأداة من أدوات الاحتجاج المقنعة، فهو يؤلف لعصره ولأبناء جيله، وعصرُه عصر كثر فيه الصراع بين أرباب الملل والنحل.
حصر الجاحظ البيان في خمسة أشياء: اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال، اللفظ أهم تلك الوسائل عنده، ومن ثم تحدث عنه بإسهاب، وأوضح دور الصوت في هذا المجال، وأشار إلى العيوب التي تعتري البيان بسبب علة في الصوت؛ كالحبسة واللثغة واللكنة واللحن، وغيرها من العلل التي تلحق اللفظ، ومقياس الفصاحة عنده هو القرآن الكريم.
ولم يقتصر الجاحظ على دراسة اللفظ المفرد، وإنما اهتم باللفظ داخل التركيب، فعقد بابًا للبلاغة، وعرض التعريفات التي دارت حولها، وقارن بين مفاهيمها لدى الأمم المختلفة، وبيَّن شروطها من إيجاز، وموافقة الكلام لمقتضى الحال، ومتانة العبارة، والطبع، والموهبة وغير ذلك، كما تعرض الجاحظ في كتابه لأصل اللغة، وكيفية تعلمها، وما يطرأ عليها من تطور، وأشار إلى حركة الترجمة التي نشطت في عصره نشاطًا لا حد له، كما أشار إلى ما ينبغي للترجمان أن يتصف به من علم باللغة وغيرها، ورأى أن الشعر لا يترجم، وإذا ترجم ذهب سحره وتقطع نظمه، وبطل وزنه وذهب حسنه، وهذه رؤية إن دلت فإنما تدل على تمكنه في باب الشاعرية والنقد.
كما استحوذ الزهد على جانب كبير من كتابه، حيث أورد كثيرًا من مواعظ الزهاد والنساك، وذكر أسماءهم؛ كالحسن البصري وأبي حازم الأعرج وأبي