حديث ابن قتيبة عن الشعراء، وأزمانهم وأحوالهم وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومعرفة السابق المبتكر أو المبدع واللاحق المتبع أو المقلد، كما قال هو نفسه في المقدمة، كل هذا يعد من صميم المنهج التاريخي، ولو تتبعنا معالجته للشعراء داخل الكتاب لوجدناه يسلك هذا المنهج، فهو يذكر نسب الشاعر من جهة أبيه وأمه، ويحدد موطنه وطبيعة البيئة التي نشأ فيها، ويسرد بعضًا من أخباره وأشعاره.

ولو تأملنا قضايا الكتاب تتكشف لنا أبعاد ذلك المنهج التاريخي، ولكن يتضح لنا أيضًا من خلال هذا التأمل والتتبع لهذه القضايا؛ أنه تخطى حدود المنهج التاريخي إلى غيره من المناهج، فمثلا حديثه عن اختلاف طبائع الشعراء، وتفاوتهم في الأغراض الشعرية تبعًا لذلك، مما يتصف بالمنهج النفسي، وأيضًا لو تأملنا حديثه عن مثيرات الشاعرية عندما قال: "وللشعر دواعٍ تحث البطيء وتبعث المتكلف منها: الطمع والشكر"، إلى آخر ما ذكر، لو تأملنا هذا لوجدناه أيضًا يتحدث عن صفات العاطفة وآثارها، وهذا يتصل بالمنهج النفسي أيضًا، وليس فيه إشارة إلى المنهج التاريخي.

كما أن حديثه عن البناء الفني للقصيدة، وتعليله لهذا المنهج المتبع لدى شعراء العرب تعليل نفسي واضح، لا شك في ذلك، وإذا أنت فتشت في الكتاب لا تخطئ العثور على ملامح واضحة للمنهج الفني، كحديثه عن أقسام الشعر، وتنقيح الشعر بطول التفتيش فيه، بعض الآراء النقدية التي أوردها وإن كانت قليلة، مناقشة بعض الآراء التي أوردها لغيره، كل هذا يتصل بالمنهج الفني، وإن كان ابن قتيبة قد قرر أنه لا ينظر إلى عامل الزمان في الحكم على الشعراء، وإنما ينظر إلى الجودة، فلابد أنه يعني الناحية الفنية عندما قال: "أنا لا أنظر إلى المتقدم لتقدمه ولا إلى المتأخر لتأخره، وإنما أنظر بعين العدل"، عين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015