هذه نكبات وفتن أدت إلى نتيجة واحدة: إهدار كثير من تراثنا، وضياع فكر كنا في أشد الحاجة إليه، هذه النكبات تمثل جراحات غائرة في جسد تراثنا المخطوط لازلنا نعاني منها إلى الآن ما بين تمزيق وإتلاف وتشويه وسرقة، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى تضميد تلك الجراحات ولَمّ شعث هذا الشتات ورتق خرقه، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لهذا التراث من ينهض به، ويدفع عنه عاديات الزمان، ويجدّ في تحقيقه وتوثيقه رجالات وهيئات ومؤسسات وجامعات، كل هؤلاء -أخذوا على عاتقهم هذه المهمة الصعبة- الرجالات والهيئات والمؤسسات تسعى بخطى وثابة نحو تحقيق هذا التراث، وتوثيقه وإحيائه ونشره في صورة رائقة رائعة، وإنها لعملية معقدة تحتاج إلى جهد جهيد وعزيمة قوية وتعاون وشد أزر.
متى ظهر التحقيق والتوثيق؟ الحقيقة أن تحقيق النصوص وتوثيقها فن عربي المولد والنشأة منذ فجر التاريخ والحضارة، ولم تعرفه أوربا إلا في القرن الخامس عشر الميلادي عندما اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وعندما عرفته أوربا بعلمائها لم يأتوا به على أكمل وجه حين ذاك؛ إذ عمدوا إلى المهم منه، واستنتجوا اصطلاحات حدسية خالفوا بها ما في النسخ الأصلية، وهذا يخالف الأصول التي وضعها العلماء للتحقيق العلمي.
أما إذا نظرنا إلى الفكر العربي وجهود العرب في ميدان التحقيق، فيعد القرآن الكريم أول كتاب تم تحقيقه وتدوينه، كان ذلك في النصف الأول من القرن الأول الهجري، ثم بعد ذلك دون الشعر الجاهلي بعد تحقيقه في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ولا شك في أن الشعر الجاهلي قد تعرض لآفات كثيرة