وهو بهذا في الحقيقة يسبق "بيكون" الذي توفي سنة ألف وستمائة وست وعشرين، و"بيكون" هذا هو الذي نادى بأنه يجب علينا ألا نستند إلى أحكام المتقدمين ونسلم بآرائهم؛ لأنهم لا يعاينون الأمور عيانًا كافيًا، فما ينبغي لنا أن نكون أصحاب أفكار مسبقة نؤمن بها، بل يجب علينا أن نلجأ إلى المعاينة وإلى التجربة، ثم إلى استنباط النتائج العامة من الأمور التي نعاينها ونجربها، هذا كلام "بيكون"، و"ديكارت" له كلام يشبه هذا الكلام، فلسفته كانت تقوم على العقل. يقول: "لا تصدقوا إلا ما كان واضحًا"، فالوضوح إنما هو أصل الأمر في اليقين، فما ينبغي لقوة من القوى الظاهرة أن يكون لها سلطان على حرية تفكيرنا.

هذا الكلام الذي قاله "بيكون" و"ديكارت" في القرن السابع عشر الميلادي -يعني بعد الجاحظ بمئات السنين- ليس جديدا في مجال البحث العلمي، هذه هي الحقيقة، ولكن إذا تأملنا كلام الجاحظ لوجدنا أنهما عالة على الجاحظ في أفكاره هذه، فمن كلام الجاحظ في كتاب (الحيوان): "لا أجعل الشيء الجائز كالشيء الذي تثبته الأدلة، ويخرجه البرهان من باب الإنكار". الشيء الجائز يعني هو الشيء الذي فيه احتمالان: احتمال أن يكون هو أو لا يكون، يعني الذي فيه شك، يعني لم تقم عليه الحجة.

هذا كلام الجاحظ ولو تأملناه لوجدنا أنه أكثر دقة من كلام "بيكون" و"ديكارت"، فهو صاحب المنهج التجريبي فعلا القائم على التجريب. هذه مجموعة من الأدوات والأسس التي اعتمد عليها علماء العرب في بحثهم العلمي، بالإضافة إلى أداتين مهمتين كانتا ضمن أدوات حفظ التراث الأدبي لدى العرب، وهما أيضا أداتان مهمتان من أدوات البحث العلمي عند العرب؛ وهما: الرواية ثم الكتابة، نعم في المراحل الأولى اعتمد علماء العرب على الرواية في بحوثهم العلمية، ثم في مرحلة تالية اعتمدوا على الكتابة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015