وكانوا أحيانًا لا يسجلون مصادرهم في مقدمات مصنفاتهم، ولكنهم كانوا يسجلون المصدر باسمه في تضاعيف الكتاب حين النقل منه، فلو تأملنا مثلًا كتاب (المغني) لابن سعيد نجده يعنى بذكر مصادره عناية دقيقة، حيث تتردد كثيرًا في تضاعيف كلامه، ككتاب (المسهب) للحجاري، وكتاب أحمد بن موسى الرازي، وكتاب (المسالك والممالك) لابن حوقل، وكتاب (فرحة الأنفس) لابن غالب، و (نقد العروس) لابن حازم، وكتاب (البديع في فصل الربيع)، وغير ذلك مما ورد في تضاعيف الكتاب.
كل هذا يؤكد اهتمام القدامى بالمصادر، وانتفاعهم بها، وكانوا غالبًا إذا نقلوا عنها لم يلخصوا أو يحرفوا في عباراتها، وإنما يتقيدون بالألفاظ تقيدًا شديدًا. وقد نقدوا المصادر أيضًا، واعتنوا بنقدها عناية لا مثيل لها، وربما كانت عنايتهم بالحديث الشريف ومصادره وراء ذلك النقد، فقد ألفوا كتبًا كثيرة في الرواة، ورجال الأسانيد، وصوروا حياتهم، وسلوكهم، وكل ما اقتربوا فيه من شئون الحياة العلمية؛ حتى يكونوا على بينة من جميع أمورهم، وجرحوا من استحق التجريح منهم، وألفوا الكتب الكثيرة في الجرح والتعديل، وكانت التعديل يقوم على أساس اتصاف الراوي بالعدالة، وثبوت الأهلية للرواية، فلا بد أن يكون ممن عرفوا بالتقوى، والصدق، والأمانة. أما التجريح: فيقوم على اتصاف الراوي ونقص العدالة، والصدور عن الهوى، أو عن الكذب والتخليط، وقد تأثر علماء اللغة والأدب بعلماء الحديث في هذا الجانب تأثرًا واضحًا، فقد فحصوا رواة اللغة والشعر منذ القرن الثاني الهجري، واكتشفوا كذب حماد وابن الكلبي وجناد ورفضوا روايتهم، كما اكتشفوا وضع خلف الأحمر للأشعار، وكذبه في روايته، وأشادوا بثقة العدول من الرواة، كالمفضل الضبي، وابن الأعرابي، والأصمعي وغيرهم.