والتي إذا تأملناها جيدًا -وهي ثرية بحق- نجد فيها إشارات ذكية عن هذه الملاحظات النفسية، ودورها في مجال الإبداع وغيره. ومعنى ذلك: أن مفهوم المنهج النفسي قديم قدم الأدب، وإن المصطلح لم يظهر إلا متأخرا.
ولنضرب بعض الأمثلة من تراثنا للتدليل على ذلك؛ حتى لا يكون كلامنا مجرد ادعاء. ولنأخذ ابن قتيبة مثلًا: ابن قتيبة يبحث قضية البناء الفني للقصيدة الجاهلية في كتابه (الشعر والشعراء) فيقول في هذه القضية: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار، والدمن، والآثار، فبكى، وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكى شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة، والشوق؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستعدي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء".
فابن قتيبة ينظر في هذه الفقرة إلى منهج القصيدة من زواية نفسية بحتة، ويرى أن الشاعر العربي لجأ إلى هذا المنهج بقصد التأثير في نفس المتلقي. ومن ثم، يختار ما هو قريب إلى النفس، كالحديث عن المرأة عموما، ثم تأمل قوله: "لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب" تجده يثبر أغور النفس البشرية بعيدًا عن تعقيدات علم النفس في نظرياته الحديثة.
نطالع مثل هذه التحليلات النفسية والإشارات الكثيرة لابن قتيبة بين دفتي الكتاب عند حديثه مثلا: عن الطبع والتكلف، وعند حديثه عن مثيرات العاطفة، والأوقات التي يسهل فيها نظم الشعر، وغير ذلك من قضايا.
ليس ابن قتيبة وحده هو الذي تنبيه إلى هذا الجانب النفسي، ودوره في عملية الإبداع، وما يترتب عليها، وتعرض له حين البحث في الأدب. وإنما هناك