من التأنُّق الذي حَرَّض عليه أئمة البلاغة في هاته المواضع الثلاثة.
ولنرجع إلى الحالة السادسة من أحوال الألفاظ المركبة وهي مناسبة الكلام للغرض: بأن يناسبه في الرِّقَّة والجَزَالة، وبأن تناسبَه كيفيَّةُ انتظامِه من سَجْعٍ وتَرَسُّلٍ وإيجاز وإطناب وبَسَاطَةٍ وصَنْعَة، وهذا أهمُّ شيءٍ في الإنشاء بعد ما تقدَّم وأصعبُه، ومن الأدباء من يقسِّم الإنشاء إلى عالٍ ووسط وسافل، فيظنُّ من لا يتأمَّل أنَّ هذا التقسيمَ يدخل في التعليم، وهو غلط؛ إذ التعليم لا يَقْصِدُ إلا الغايةَ العليا من الفنِّ الذي يُعَلَّم، وإنما المرادُ التنبيهُ على مراتب الإنشاء في الخارج والموازَنةِ بينها ليحصل من ذلك تمرينٌ على اختيار أحسنه، نعم! يكتفي معلِّمُ المبتدئين منهم بالإنشاء السَّافل، لكن لا ليبقوا في تلك المرتبة بل ليرتقوا عنها رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ويحتذوا في كلِّ صِنْفٍ آثارَ المجيدين فيه، من كُتَّاب دولة وأدباء وموثِّقين وصحافيين وخطباء ومؤرِّخين ومؤلفين وشعراء، فتوجد في كلِّ صِنْفٍ منها مراتبُ في البَسَاطة والتأنُّق بحسب أحوال المخاطَبين من خاصَّةٍ وعامَّةٍ وأذكياء وأغبياء، ولا شك أنَّ لأحوال المتكلِّمين أيضًا علاقةً بحالةِ إنشائِهم، فلذلك غَلَب على العرب الأندلسيين الرِّقَّةُ في الكلام، وعلى العرب في صدر الإسلام الجَزَالة، وعلى أهل الحواضر والسَّبْق في المدنِيَّة مُخْتَرَعُ المعاني، وبعكسهم أهل البوادي، وقد قال بعض الأدباء لما قيل له: ما يمنعك أن تقول مثل قول ابن المعتز في تشبيه الهلال:
فانظرْ إليه كزَوْرَقٍ مِنْ فِضَّةٍ ... قد أَثْقَلَتْهُ حَمُولَةٌ مِنْ عَنْبَر
فقال: "كلٌّ يقولُ بما يرى في بيته".
ولا بأس أن نمثِّل هنا لشيءٍ من أغراض الكلام وما يناسبُها