وأشدُّ مَنْ يظهر احتياجُه إلى رَعْي قواعدِ هذا الاتصال الخطباءُ؛ فإنَّ من دَأْبِهم التطرقَ إلى موضوعاتٍ كثيرةٍ، فإن هم لم يُحسِنوا ترتيبَها جاء الكلامُ نُتَفًا ينبو بعضُه عن بعض، وقد رأينا الشعراءَ لا يزيدون في انفكاك الغرض على أكثر من ثلاثة أبيات، ويتوخَّون من الصفات ونحوها ما له علاقةٌ بالغرضِ شديدةٌ وكذلك شأن الكاتب أيضًا.
وأما الانتقال من غرضٍ إلى غرضٍ ومن أسلوب إلى أسلوب: فهو زينةُ الكلام للكاتب والشاعر والخطيب، وهو أحسن تَطْرِيَةً لنشاط السامع، وأكثر إيقاظًا للإصغاء إليه، ويختصُّ من اللطافة بمثل ما قرره علماء المعاني للالتفات، فقد سمَّاه السكاكي: "قِرَى الأرواح". ولا بد فيه من مراعاة المناسبة، كما ترى في انتقالات القرآن العظيم.
وأما حُسْن الابتداء، والتَّخَلُّصُ، والخِتَامُ: فإنما خُصَّت بالبحث وإن كان جميع الكلام مشروطًا بالحسن، فذلك لأنَّ الإجادةَ فيها أعسر؛ إذ الابتداء هو أول ما يَقْرَع السمع، وأول ما يبتدئ به المتكلم، وهو مفتاح الكلام، فإن هو أتقنَه كان إتقانُه مُعِينًا على النَّسْج على منواله، كما يقال: (الحديث شُجُون)، وكذلك التخلُّص من المقدمة إلى الغرض؛ فإنه يحتاج إلى فضلِ براعةٍ في الارتباط بينهما، وكذلك الختام؛ لأنه يجب أن يكون قد استوعب ما تكلَّم لأجله، حتى لا يثني إليه عِنان الكلام مرَّةً أخرى بعد السكوت، ولا جرم أن يكون ما يتخلَّلُ بين هذه الثلاثة رشيقًا بليغًا متى سَهُلت على المتكلم الإجادة في هذه الثلاثة، وهذا هو المراد