* ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة الوثيقة بهذا الموضوع، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب.. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء ... ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله.. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلا:

يقول ورقة (رحمه الله) :

لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا

فهو في هذه المقدمة يعبر عن تشوقه لأخبار محمد (صلى الله عليه وسلم) التي حركت سواكن الأشجان في صدره من أوضاع الناس الغارقين حوله في حلكات الظلام.. فهو يتطلع بلهفة إلى الموعد المنتظر.. وهي مقدمة واضحة الدلالة، على الرغم مما فيها من جفاف العبارة وتكلف الشاعرية.. ولكن هذا الانسجام لا يلبث أن يتقلقل عندما نقرأ البيت الرائع:

بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا

والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لمجرد جلوسه تحت الشجرة ... وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دسا، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته، ففي (يعوجا) محاولة لقصر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة، فضلا عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غربة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة:

بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015