فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ... ) هو (وصف) في صدر البيت الثاني، وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت ... فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول.
ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطلق البحث، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ على الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السابقة لظهوره.
فأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الفضائل فقد أوضحناه مؤيدا بكل ما نملك من الحجج والبيانات، وقد بقى أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي إليه العقل والقلب من وسائل الإثبات.
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية، وهي أن بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع الذي يصوره قول الله تبارك اسمه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... } (الروم الآية 41) . ثم قول رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) في وصف الوضع البشري أثناء بعثته: " ... إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"1. إلى ساحت النور فاتضحت معالم الطريق، وتحددت المسئوليات، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقبله الأذهان.. ولذلك لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .