ومما يؤيد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة وهو يقول: "زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فأخبر خديجة بأمره، وقال: "لقد خشيت على نفسي".. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها: "كلا.. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.." ويعقب ابن كثير ذلك بقوله: "فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة.." إلى نهاية الخبر.

فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة "إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" وتؤكد رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.

ورب متسائل يقول: ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد وانصهارها عليه؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعا، فلم ير بأسا في إضافة مثلها إلى بعض أخباره.. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهوديا أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قومه: "يا معشر يهود.. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به1 وذلك مضاهات لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجلا من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح (عليه السلام) من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم2.

وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأيا معلوما في التفريق بين التاريخ والشريعة، فهم إذا رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تشددوا في التحقيق، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا إلى التساهل. وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع، وكل تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015