قُلْت: وَمِمَّا يُوَضِّح أَنَّ قَوْله زَاجِر وَآمِر إِلَخْ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْأَحْرُفِ السَّبْعَة مَا وَقَعَ فِي مُسْلِم مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْ اِبْنِ شِهَاب عَقِبِ حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس الْأَوَّل مِنْ حَدِيثَيْ هَذَا الْبَاب: قَالَ اِبْنُ شِهَاب بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْأَحْرُف السَّبْعَة إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْر الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِف فِي حَلَال وَلَا حَرَام، قَالَ أَبُو شَامَة: وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْأَحْرُف السَّبْعَة الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآن هَلْ هِيَ مَجْمُوعَة فِي الْمُصْحَف الَّذِي بِأَيْدِي النَّاس الْيَوْم أَوْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَرْف وَاحِد مِنْهَا، مَالَ اِبْنُ الْبَاقِلَّانِيّ إِلَى الْأَوَّل، وَصَرَّحَ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَة بِالثَّانِي وَهُوَ الْمُعْتَمَد. وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي " الْمَصَاحِف " عَنْ أَبِي الطَّاهِر بْن أَبِي السَّرْح قَالَ: سَأَلْت اِبْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ اِخْتِلَاف قِرَاءَة الْمَدَنِيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ هَلْ هِيَ الْأَحْرُف السَّبْعَة؟ قَالَ: لَا، وَإِنَّمَا الْأَحْرُف السَّبْعَة مِثْل هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ، أَيّ ذَلِكَ قُلْت أَجْزَأَك. قَالَ وَقَالَ لِي اِبْنُ وَهْب مِثْله. وَالْحَقّ أَنَّ الَّذِي جُمِعَ فِي الْمُصْحَف هُوَ الْمُتَّفَق عَلَى إِنْزَاله الْمَقْطُوع بِهِ الْمَكْتُوب بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ بَعْض مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْرُف السَّبْعَة لَا جَمِيعهَا، كَمَا وَقَعَ فِي الْمُصْحَف الْمَكِّيّ " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار " فِي آخَرِ بَرَاءَة وَفِي غَيْره بِحَذْفِ " مِنْ " وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ اِخْتِلَاف مَصَاحِف الْأَمْصَار مِنْ عِدَّة وَاوَات ثَابِتَة بَعْضهَا دُونَ بَعْض، وَعِدَّة هَاءَات وَعِدَّة لَامَات وَنَحْو ذَلِكَ، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَتِهِ لِشَخْصَيْنِ أَوْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ شَخْصًا وَاحِدًا وَأَمَرَهُ بِإِثْبَاتِهِمَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْقِرَاءَات مِمَّا لَا يُوَافِق الرَّسْم فَهُوَ مِمَّا كَانَتْ الْقِرَاءَة جُوِّزَتْ بِهِ تَوْسِعَة عَلَى النَّاس وَتَسْهِيلًا؛ فَلَمَّا آلَ الْحَال إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَاف فِي زَمَن عُثْمَان وَكَفَّرَ بَعْضهمْ بَعْضًا اِخْتَارُوا الِاقْتِصَار عَلَى اللَّفْظ الْمَأْذُون فِي كِتَابَته وَتَرَكُوا الْبَاقِي. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَصَارَ مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة مِنْ الِاقْتِصَار كَمَنْ اِقْتَصَرَ مِمَّا خُيِّرَ فِيهِ عَلَى خَصْلَة وَاحِدَة، لِأَنَّ أَمْرهمْ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْأَوْجُه الْمَذْكُورَة لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيل الْإِيجَاب بَلْ عَلَى سَبِيل الرُّخْصَة.
قُلْت: وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث الْبَاب " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " وَقَدْ قَرَّرَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ تَقْرِيرًا أَطْنَبَ فِيهِ وَوَهَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاس بْن عَمَّار فِي " شَرْح الْهِدَايَة " وَقَالَ: أَصَحُّ مَا عَلَيْهِ الْحُذَّاق أَنَّ الَّذِي يَقْرَأ الْآن بَعْض الْحُرُوف السَّبْعَة الْمَأْذُون فِي قِرَاءَتهَا لَا كُلّهَا، وَضَابِطه مَا وَافَقَ رَسْم الْمُصْحَف، فَأَمَّا مَا خَالَفَهُ مِثْل " أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِم الْحَجّ " وَمِثْل " إِذَا جَاءَ فَتْح اللَّه وَالنَّصْر " فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْقِرَاءَات الَّتِي تُرِكَتْ إِنْ صَحَّ السَّنَد بِهَا، وَلَا يَكْفِي صِحَّة سَنَدهَا فِي إِثْبَات كَوْنهَا قُرْآنًا، وَلَا سِيَّمَا وَالْكَثِير مِنْهَا مِمَّا يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّأْوِيل الَّذِي قُرِنَ إِلَى التَّنْزِيل فَصَارَ يُظَنّ أَنَّهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي " شَرْح السُّنَّة ": الْمُصْحَف الَّذِي اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْر
¥