قالوا: وهذا التطريب والتلحين، امر راجع الى كيفية الاداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلُّفاً وتعقُلاً، وكيفيات الاداء لا تخرِجُ الكلام عن وضع مفرداته، بل هي صِفات لصوت المؤدِّي، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وامالته، وجارية مجرى مدود القرَّاء الطويلة والمتوسطة، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف، وكيفيات الالحان والتطريب، متعلقة بالاصوات، والاثار في هذه الكيفيات، لا يمكن نقلُها، بخلاف كيفيات اداء الحروف، فلهذا نُقلت تلك بالفاظها، ولم يمكن نقل هذه بالفاظها، بل نقل منها ما امكن نقله، كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله: (ا ا ا). قالوا: والتطريب والتلحين راجع الى امرين: مدٍ وترجيع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه كان يمد صوته بالقراءة يمد (الرحمن) ويمد (الرَّحيم)، وثبت عنه الترجيع كما تقدم.
قال المانعون من ذلك: الحجة لنا من وجوه. احدها: ما رواه حُذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القُرْان بِلحُونِ العَرَبِ واصْوَاتِها، وايَاكُم وَلُحُونَ اَهْلِ الكِتَابِ وَالفِسْق، فانَّهُ سَيَجيء في مِنْ بَعْدِي اَقوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالقُرْانِ تَرْجِيعَ الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، مَفتُونَةً قُلُوبُهُم، وَقُلُوبُ الَذِينَ يُعْجِبُهُم شَاْنُهُم) رواه ابو الحسن رَزِينّ في (تجريد الصحاح) ورواه ابو عبد اللّه الحكيم الترمذي في (نوادر الاصول). واحتج به القاضي ابو يعلى في (الجامع)، واحتج معه بحديث اخر، انه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائطَ الساعة، وذكر اشياء، منها: (ان يُتخذ القرانُ مَزاميرَ، يُقدِّمونَ اَحَدَهُم لَيْسَ بِاَقْرَئِهِم وَلا اَفْضَلِهِم ما يُقَدِّمُونَهُ الا لِيُغَنِّيَهُم غِنَاءً).
قالوا: وقد جاء زياد النهدي الى انس رضي اللّه عنه مع القراء، فقيل له: اقرا، فرفع صوته وطرَّب، وكان رفيعَ الصوت، فكشف انس عن وجهه، وكان على وجهه خِرقة سوداء، وقال: يا هذا! ما هكذا كانوا يفعلون، وكان اذا راى شيئاً يُنكره، رفع الخِرقة عن وجهه. قالوا: وقد منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤذِّن المُطَرِّبَ في اذانه من التطريب، كما روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم مؤذِّن يطرِّب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (انَّ الاذان سَهْلِّ سمح.، فان كان اَذَانُكَ سَهْلا سَمْحاً، والاَّ فَلا تُؤذِّن) رواه الدارقطني وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن ابي بكر، عن ابيه، قال: كانت قراءةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدَّ، ليس فيها ترجيع. قالوا: والترجيع والتطريب يتضمن همزَ ما ليس بمهموز، ومدَّ ما ليس بممدود، وترجيعَ الالف الواحد الفات، والواوَ واوات، والياء ياءاتٍ، فيؤدِّي ذلك الى زيادة في القران، وذلك غير جائز، قالوا: ولا حدَّ لما يجوز من ذلك، وما لا يجوز منه، فان حُدَّ بحدٍّ معيَّنٍ، كان تحكُّماً في كتاب اللّه تعالى ودِينه، وان لم يُحَدَّ بحدٍّ، افض الى ان يُطلق لفاعله ترديدُ الاصوات، وكثرةُ الترجيعات، والتنويعُ في اصناف الاِيقاعات والالحان المشبِهة للغناء، كما يفعل اهلُ الغناء بالابيات، وكما يفعله كثير من القُرَّاء امام الجنائز، ويفعلُه كثيرٌ مِن قراء الاصوات، مما يتضمن تغييرَ كتاب الله والغِناء به على نحو الحان الشعر والغناء، ويُوقعون الاِيقاعات عليه مثل الغناء سواء، اجتراءً على اللّه وكتابه، وتلاعباً بالقران، وركوناً الى تزيين الشيطان، ولا يجيز ذلك احدٌ من علماء الاِسلام، ومعلوم: ان التطريبَ والتلحين ذريعةٌ مُفضية الى هذا افضاءً قريباً، فالمنع منه، كالمنع من الذرائع الموصلة الى الحرام، فهذا نهايةُ اقدام الفريقين، ومنتهى احتجاج الطائفتين.
وفصل النزاع، ان يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين، احدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل اذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وان اعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال ابو موسى الاشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: (لَو علمتُ انّكَ تَسمَع لَحَبَّرْتُه لَكَ تحبِيراً) والحزين ومَن هاجه الطرب، والحبُ والشوق لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتاثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل ادلة ارباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل الا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم اصوات الغِناء بانواع الالحان البسيطة، والمركبة على ايقاعات مخصوصة، واوزانٍ مخترعة، لا تحصل الا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وانكروا على من قرا بها، وادلة ارباب هذا القول انما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكلُّ من له علم باحوال السلف، يعلم قطعاً انهم بُراء من القراءة بالحان الموسيقى المتكلفة، التي هي ايقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وانهم اتقى للّه من ان يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً انهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون اصواتَهم بالقران، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا امر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل ارشد اليه وندب اليه، واخبر عن استماع اللّه لمن قرا به، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقرانِ) وفيه وجهان: احدهما: انه اخبار بالواقع الذي كلُّنا نفعله، والثاني: انه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم.)
والله أعلم ..
والحمدلله رب العالمين ....
¥