فانه اغفال منه، وذلك لان التغاني تفاعل من تغنَّى: اذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، اذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا. ومن قال: هذا في فعل اثنين، لم يجز ان يقول مثله في فعل الواحد، فيقول: تغانى زيد، وتضارب عمرو، وذلك غيرُ جائز ان يتول: تغنى زيد بمعنى استغنى، الا ان يريد به قائله انه اظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال: تجلَّد فلان: اذا اظهر جَلَدا من نفسه، وهو غير جليد، وتشجَّع، وتكرَّم، فان وجَّه موجِّه التغنِّي بالقران الى هذا المعنى على بُعده من مفهوم كلام العرب، كانت المُصيبة في خطئه في ذلك اعظمَ، لانه يُوجب على من تاوله ان يكون اللّه تعالى ذِكرُه لم ياذن لنبيه ان يستغني بالقران، وانما اذِنَ له ان يُظهر من نفسه لنفسه خلافَ ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فسادُه. قال: ومما يُبين فسادَ تاويل ابن عُيينة ايضاً ان الاستغناء عن الناس بالقران مِن المحال ان يُوصف احد به انه تؤذن له فيه او لا يؤذن، الا ان يكون الاذن غد ابن عيينة بمعنى الاِذن الذي هو اطلاق واباحة، وان كان كذلك، فهو غلط من وجهين، احدهما: من اللغة، والثاني: من احالة المعنى عن وجهه. اما اللغة، فان الاذن مصدر قوله: اذن فلان لكلام فلان، فهو ياذَن له: اذا استمع له وانصت، كما قال تعالى: {واَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق. 2]، بمعنى سمِعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدى بن زيد:
* انَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ واذَن *
بمعنى، في سماع واستماع. فمعنى قوله: ما اذن اللّه لشيء، انما هو: ما استمع اللّه لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقران. واما الاِحالة في المعنى، فلان الاستغناء بالقُرْان عن الناس غيرُ جائز وصفه بانه مسموع وماذون له، انتهى كلام الطبري.
قال ابو الحسن بن بطال: وقد وقع الاِشكال في هذه المسالة ايضاً، بما رواه ابن ابي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني موسى بن عليّ بن رباح، عن ابيه، عن عُقبة بن عامر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (تَعَلَّموا القُرْانَ وتَغَنَّوا بِهِ، واكتبوه، فَوالذي نَفسي بِيَدِهِ، لَهوَ اَشَدُّ تَفَصِّياَ مِنَ المَخَاضِ مِنَ العقُلِ). قال: وذكر عمر بن شَبَّة، قال: ذكر لابي عاصم النبيل تاويلُ ابن عيينة في قوله (يتغنّىَ بالقران) يستغني به، فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئاً، حدثنا ابنُ جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، قال: كانت لداود نبيِّ اللّه صلى الله عليه وسلم مِعزَفَةٌ يتغنَّى عليها يَبكي ويُبكي. وقال ابن عباس: انه كان يقرا الزبور بسبعين لحناً، تكون فيهن، ويقرا قراءة يَطْرَبُ منها الجموعُ. وسئل الشافعي رحمه اللّه، عن تاويل ابن عيينة فقال: نحن اعلمُ بهذا، لو اراد به الاستغناء، لقال: (من لم يستغن بالقُران)، ولكن لما قال: (يتغنَّى بالقران)، علمنا انه اراد به التغنِّي.
قالوا: ولان تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته اوقعُ في النفوس، وادعى الى الاستماع والاِصغاء اليه، ففيه تنفيذ للفظه الى الاسماع، ومعانيه الى القلوب، وذلك عونٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء لتنفذه الى موضع الداء، وبمنزلة الافاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام، لتكون الطبيعة ادعى له قبولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحكِّي، وتجمُّل المراة لبعلها، ليكون ادعى الى مقاصد النكاح. قالوا: ولا بد للنفس من طرب واشتياق الى الغناء، فعُوِّضت عن طرب الغناء بطرب القران، كما عُوِّضت عن كل محرَّم ومكروه بما هو خيرٌ لها منه، وكما عوِّضت عن الاستقسام بالازلام بالاستخارة التي هي محضُ التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح بالنكاح، وعن القِمار بالمُراهنة بالنِّصال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القراني، ونظائره كثيرة جداً.
قالوا: والمحرَّم، لا بد ان يشتمِل على مفسدة راجحة، او خالصة، وقراءة التطريب والالحان لا تتضمن شيئاً مِن ذلك، فانها لا تُخرِجُ الكلام عن وضعه، ولا تَحولُ بين السامع وبين فهمه، ولو كانت متضمِّنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها، لاخرجت الكلمة عن موضعها، وحالت بين السامع وبين فهمها، ولم يدر ما معناها، والواقعُ بخلاف ذلك.
¥