وما انتقداه هما وغيرهما رحمه الله موجود في سائر القراءات العشر المتواترة التي يقرأ بها المسلمون اليوم متوارثينها جيلاً عن جيلٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا أنه اجتمع في قراءة حمزة ما لم يجتمع في غيرها, وهو ثابتٌ عندهما بالسند المتصل , وقد أقرا بأن شيئاً من ذلك لم يكن اجتهادا من أنفسهم , قال سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفا إلا بأثر.
وقد يعتذر لهما بعدم بلوغ التواتر أو القراءة لهم , وهذا ليس قدحاً فيهم , وقد حصل قبل انقطاع الوحي إنكارٌ من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقراءة هشام بن حكيم رضي الله عنه , وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنها ثابتة من عند الله ,ولا أدل على احتمال ثبوت ذلك من أنَّ الإمام أحمد رحمه الله يقول في موضع آخر - أغفل الشيخ إيراده مع أنه أصرح في الدلالة على ما يريد -: (هي قراءة مُحدَثَةٌ، ما قرأ بها أحد. إنما هي إيه)
وهذا ليس كلامَ من بلغه تواترها وإجماع القرأَة على اتصال أسانيدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو بلغه ذلك لقال كما قال غيره من جمهور الأمة أنها قد قرأ بها أكرمُ أحدٍ على الله وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز لمسلمٍ أن يعتقد أنها ناقصة أو متكلفةٌ وقد استقر الإجماع بين المسلمين على صحتها وثبوتها , مع أن المثبت في عصرنا متسلح بالسند والتواتر والإجماع , والنافي ليس لديه غير التضعيف والاتهام.
وليس الموضوع عن قراءة حمزة رضي الله عنه لنطيل فيه أكثر من اللازم.
وأنكر العلماء في كل العصور صرف الأوقات في المبالغة في التجويد وعدوه من تأثير الأعاجم على المسلمين، ومن ذلك ما يلي:
قال ابن قتيبة: "قد كان الناس يقرءون القرآن بلغاتهم دون تكلف، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء الأعاجم فهفوا وضلوا وأضلوا، وأما ما اقتضته طبيعة القارئ من غير تكلف فهو الذي كان السلف يفعلونه، وهوالتغني الممدوح".
وقال النووي: "إن لم يكن القارئ حسن الصوت حسّنه ما استطاع، ولا يخرج بتحسينه عن حد القراءة، وإلى التمطيط المخرج له عن حدوده". وقال ابن رشد: "الواجب أن ينزه القرآن عما يؤدي إلى هيئة تنافي الخشوع، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع منه القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق فيما عند الله"
قلتُ:
هذا موضعُ إجماع لا اختلاف فيه , اللهم إن ظن البعضُ أنّ محاربة هذِّ القرآن وإنكاره على الناس هي التنطع والتكلف.
والتغني الممدوح هو ما تقتضيه الطبيعة، وتسمح به القريحة، من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلي وطبعه استرسلت طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى رضي الله عنه: لحبرته لك تحبيرا.
قلتُ:
وكيف تسترسل الطبيعةُ ويُستَحسنُ استرسالها والنصوص التي نقلها الشيخ أعلاه تثبت ضرورة الالتزام بتحسين القرآن بحيث لا يخرج عن حد القراءة , وهذا التساهل هو ما أخرج لنا مئات الأشرطة اليوم التي يحتاجُ مصدرها المتصدرون إلى الرجوع للكتاتيب لتعلم قراءة القرآن.
وقال شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما -في تزيين الصوت بالقرآن- هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس بالوسوسة في خروج الحروف وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وشغله بالوصل والفصل، والإضجاع والإرجاع والتطريب، وغير ذلك، مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله، والتلاعب به، حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع بالوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.
وهنا أقول كما قلتُ سابقا: هذا موضعُ إجماع لا اختلاف فيه , اللهم إن ظن البعضُ أنّ محاربة هذِّ القرآن وإنكاره على الناس هي التنطع والتكلف.
ولابن ماجه عن جابر مرفوعًا: «إن من أحسن الناس صوتاً الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله»، ولأبي داود عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: «اقرءوا فكلٌ حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القِدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه»، أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة للرياء والمباهاة والشهرة والتأكل، ويذهب الخشوع.
¥