وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز. وأما ما روينا عن (الشافعي) رضي الله عنه من أنه قال: ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب (مالك) - ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ - فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي (البخاري ومسلم).
ثم إن (كتاب البخاري) أصح الكتابين صحيحاً، وأكثرهما فوائد. وأما ما رويناه عن (أبي علي الحافظ النيسابوري) - أستاذ (الحاكم أبي عبد الله الحافظ) - من أنه (12) قال: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب (مسلم بن الحجاج). فهذا - وقول من فضل من شيوخ المغرب (كتاب مسلم) على (كتاب البخاري) - إن كان المراد به: أن (كتاب مسلم) يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسروداً، غير ممزوج بمثل ما في (كتاب البخاري) في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح، فهذا لا بأس به. وليس يلزم منه أن (كتاب مسلم) أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على (كتاب البخاري). وإن كان المراد به: أن (كتاب مسلم) أصح صحيحاً، فهذا مردود على من يقوله. والله أعلم.
الرابعة: لم يستوعبا الصحيح في صحيحيهما، ولا التزما ذلك.
فقد روينا عن (البخاري) أنه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصحاح لملال الطول.
وروينا عن (مسلم) أنه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه.
قلت: أراد - والله أعلم - أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم.
ثم إن (أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ) قال: قلَّ ما يفوت (البخاري ومسلماً) مما يثبت من الحديث. يعني في كتابيهما. ولقائل أن يقول: ليس ذلك بالقليل، فإن (المستدرك على الصحيحين) (للحاكم أبي عبد الله) كتاب كبير، يشتمل مما فاتهما على شيء كثير وإن يكن عليه في بعضه مقال فإنه يصفو له منه صحيح كثير. وقد (13) قال (البخاري): أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. وجملة ما في كتابه الصحيح سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المتكررة. وقد قيل: إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث. إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين. وربما عدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين.
ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشهورة لأئمة الحديث: (كأبي داود السجستاني)، و (أبي عيسى الترمذي)، و (أبي عبد الرحمن النسائي)، و (أبي بكر بن خزيمة)، و (أبي الحسن الدارقطني)، وغيرهم. منصوصاً على صحته فيها.
ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجوداً في (كتاب أبي داود)، و (كتاب الترمذي)، و (كتاب النسائي)، وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره.
ويكفي مجرد كونه موجوداً في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه، (ككتاب ابن خزيمة). وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على (كتاب البخاري) و (كتاب مسلم)، (ككتاب أبي عوانة الإسفرائيني)، و (كتاب أبي بكر الإسماعيلي)، و (كتاب أبي بكر البرقاني)، وغيرها، من تتمة لمحذوف، أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين. وكثير من هذا موجود في (الجمع بين الصحيحين) (لأبي عبد الله الحميدي).
واعتنى (الحاكم أبو عبد الله الحافظ) بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتاب سماه (المستدرك) أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين: مما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرط البخاري وحده، أو على شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما.
(14) وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به. فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته، ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن، يحُتج به ويُعمل به، إلاَّ أن تظهر فيه علَّة توجب ضعفه.
ويقاربه في حكمه (صحيح أبي حاتم بن حبان البستي)، رحمهم الله أجمعين. والله أعلم.
¥