في الصحيحين أن المتوسط في أمره ويحكم عليه بالحسن، هذا من باب التوسط في الحكم، وهذا الذي أفرزه رأي ابن الصلاح في انقطاع التصحيح والتضعيف، وإلا فالأصل أن السنن وغيرها من الكتب حاشا الصحيحين مما ينبغي أن تدرس أسانيده ويحكم على كل حديثٍ بما يليق به، كما تقدم في كلامه عن مستدرك الحاكم، يقول ابن الصلاح: "فما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين، ولا نصَّ على صحته أحد، فهو حسن عند أبي داود" اعترض على هذا الكلام؛ لأن فيما سكت عنه أبو داود الصحيح، وفيما سكت عنه أبو داود الحسن وهو كثير، وفيما سكت عنه الضعيف؛ لأن مقتضى لفظه: "وما كان فيه وهن شديد بينته" معناه أن الوهن والضعيف الغير شديد لا يبينه، إذاً فيه الضعيف، وأيضاً واقع الكتاب يشهد بأنه سكت عن أحاديث ضعيفة، بل شديدة الضعف، فكيف نقول: أن ما سكت عنه أبو داود هو حسن؟ وهذا المسلك يسلكه النووي كثيراً، الحديث الذي خرجه أبو داود وسكت عنه فهو حسن، يسلكه المنذري أيضاً في الترغيب، سكت عنه أبو داود، المقصود أن هذا قول مسلوك، لكنه مرجوح، لماذا؟ لأنه وجدت الأنواع فيما سكت عنه، ففيما سكت عنه الصحيح والحسن والضعيف، والأولى أن يتصدى للكتاب وغيره من الكتب التي لم يلتزم مؤلفوها الصحة، أو التزموا واشترطوا لكن لم يفوا أن يحكم على كل حديث بما يليق به.
كلام أبي داود على الحديث، هل نقول: أن ما أشار إليه هنا كله موجود في السنن؟ يعني ما سكت عنه في السنن فقط؟ أو في كتبه الأخرى؟ سؤالات الآجري، أو يتكلم على راوي من الرواة في موضع ينسحب هذا على جميع الكتاب؟ المقصود أن هذا غير منضبط، فلا بد من الحكم على كل حديث حديث، نعم إذا كان الحديث مخرج في الصحيحين أو في أحدهما لا كلام، لكن الشأن فيما عدا ذلك، والروايات عن أبي داود كثيرة، الكتب لها روايات، والبخاري مروي بروايات متعددة، في بعضها ما لا يوجد في بعضها، مسلم كذلك وإن كان أقل، أبو داود كذلك وهو أكثر من مسلم في هذا، هناك رواية اللؤلؤي، ورواية ابن داسة، ورواية ابن العبد، ورواية ابن الأعرابي في سنن أبي داود، وفي بعضها ما لا يوجد في بعض، وإن كان قليل لكنه موجود، فقد يوجد الكلام في بعض الروايات دون بعض، "ويوجد في بعضها من الكلام بل وأحاديث ما ليس في الأخرى، ولأبي عبيد بن الآجوري عنه أسئلة في الجرح والتعديل" طبع قسم منها "والتصحيح والتعليل كتاب مفيد، ومن ذلك أحاديث وسؤالات قد ذكرها في سننه، فقوله: وما سكت عليه فهو حسن، ما سكت عليه في سننه فقط أو مطلقاً؟ "
نقول: هذا مما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له، لكن كل هذا الكلام أفرزه رأي ابن الصلاح في انقطاع التصحيح والتضعيف، وإلا ما دام الآلة موجودة، والشخص متأهل للحكم فلا ينتظر لا كلام أبي داود ولا سكوت أبي داود؛ لأن كلام أبي داود ككلام غيره من أهل العلم، كلام الترمذي أصرح من كلام أبي داود، ينص صراحة على أن هذا الحديث صحيح، لكن هل يلزم من ذلك أن الحديث صحيح بالفعل؟ ما يلزم، الجمهور يرون أن الترمذي متساهل في التصحيح والتحسين، وإن زعم بعضهم أنه تصحيحه معتبر، وإن زاد الشيخ أحمد شاكر في ذلك ورأى أن تصحيحه معتبر وتوثيق لرجاله، يعني إذا قال: هذا حديث صحيح أو حسن صحيح، فالرجال هؤلاء كلهم ثقات، هذا كلام ليس بصحيح، وكم من حديث صححه الترمذي وفيه نظر، كم من حديث حسنه الترمذي وفيه أنظار، قول أبي داود -رحمه الله-: "ذكرت فيه الصحيح، وما يشبهه ويقاربه" فابن سيد الناس يرى أن كلام أبي داود مثل كلام الإمام مسلم حينما قسم الرواة إلى طبقات، فخرج لأهل الطبقة الأولى المعروفين بالضبط والحفظ والإتقان، وخرج عمن دونهم ممن ليسوا كذلك، يقول: ما في فرق بين كلام الإمام مسلم وتقسيمه الرواة إلى طبقات، ونزوله إلى أحاديث الطبقة الثانية بل والثالثة أحياناً، ما في فرق بينه وبين قول الإمام أبي داود: "ذكرت الصحيح، وما يشبهه ويقاربه" ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله-:
وللإمام اليعمري إنما
حيث يقول: جملة الصحيح لا
فاحتاج أن ينزل في الإسنادِ
قول أبي داود يحكي مسلما
توجد عند مالكٍ والنبلاء
إلى يزيد بن أبي زيادِ
¥