مسلم نزل عن الدرجة الأولى، عن الطبقة الأولى في الحفظ والضبط والإتقان، لكنه التزم الصحة ووفى بها، وإذا نزل؟ نزل إلى من خفّ ضبطه وارتفعت هذه الخفة بمتابعة غيره من أهل الضبط والإتقان، فرق بينما نزل إليه الإمام مسلم وبينما سكت عنه أبي داود، فرق كبير، وواقع الكتابين يشهد للفرق، وإن قال ابن سيد الناس هذا الكلام.
يقول هذه السائل وهذه من الأسئلة: ألا يقال عن تصحيح الترمذي أو تحسينه لبعض الأحاديث توثيق فعلي لرجل من رجال الإسناد عنده وإن لم يكن عند غيره؟
متى يكون توثيق فعلي؟ إذا كان الحديث يدور عليه، لكن إذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن فلان وفلان وفلان؟ ما يحتمل أن يكون توثيق فعلي، لكن إذا خرج البخاري عن شخص مدار الحديث عليه قلنا: توثيق فعلي، أما إذا خرج الحديث ثم حكم عليه بالصحة وفي الباب غيره؟ نظر إلى المجموع، معروف طريقة الترمذي التصحيح المجموع كما هو معروف.
يقول: ما هو قول الراجح في الحسن لغيره، هل يحتج به في العقائد والأحكام؟ وهل يخصص القرآن والأحاديث المتواترة والآحاد؟
المقصود: إذا قلنا: أن الحسن حجة كالصحيح، على الخلاف في ذلك وما ذكر من الخلاف بين قسميه، هل يحتج بالحسن لذاته أو الحسن لغيره إذا ارتقى؟ ما دام اقتنعنا أن الحديث وصل إلى رتبة الحسن، والحسن حجة فهو حجة، والشرع متساو الأقدام يستوي في ذلك العقائد والأحكام والفضائل وغيرها، كما ستأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى- في الضعيف.
(كتاب المصابيح للبغوي)
قال: وما يذكره البغوي في كتابه (المصابيح) من أن الصحيح ما أخرجاه أو أحدهما، وأن الحسن ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما: فهو اصطلاح خاص، لا يعرف إلا له، وقد أنكر عليه النووي ذلك، لما في بعضها من الأحاديث المنكرة.
البغوي الإمام حسين بن مسعود البغوي له كتاب اسمه: (المصابيح، مصابيح السنة) مطبوع مشهور متداول وله شروح كثيرة، ورتبه التبريزي في المشكاة وزاد عليه، المقصود أنه كتاب مشهور، لكن البغوي سلك مسلك غريب، فإذا ذكر الباب ذكر من الصحاح، ويقصد بذلك ما خرج في الصحيحين أو في أحدهما، ثم يقول بعد ذلك من الحسان ويقصد بذلك ما رواه أهل السنن، من الصحاح لا إشكال، لكن من الحسان؟ هل هو حكم منه على هذه الأحاديث التي خرجت في السنن بأنها حسان؟ ولو صحت أسانيدها ولو ضعفت أسانيدها؟ وهل لقائلٍ أن يقول: أن كلام البغوي مستدرك ويشاحح في اصطلاحه، أو نقول كما يطلق أهل العلم: لا مشاحة في الاصطلاح؟
والبغوي قسم المصابحا
أن الحسان ما رووه في السنن
إلى الصحاح والحسان جانحا
عيب عليه إذ بها غير الحسن
المقصود هل يشاحح البغوي في اصطلاحه، أو نقول: أنه بيّن اصطلاحه في المقدمة وهو يكفي؟ أهل العلم كثيراً ما يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح، لكن هذا الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه وعلى عواهنه، فهناك من الاصطلاح ما يشاحح فيه، ومن الاصطلاح ما لا مشاحة فيه، لو اصطلح شخص لنفسه أن يسمي والد الزوجة عم، والناس يقولون: خال، نقول: لا أنا بسميه عم، يشاحح في الاصطلاح؟ لا يشاحح، لأنه اصطلاح لا يترتب عليه حكم، لكن لو قال: عمي ويقصد بذلك أخا والده، الناس يسمونه عم، إخواني كلهم يسمونه عم أنا بسميه خال؟ يشاحح في الاصطلاح وإلا ما يشاحح؟ يشاحح، يترتب عليه حكم شرعي، يرث وإلا ما يرث، والمسألة معروفة.
لو قال: أنا أصطلح لنفسي أن أقول: الشرق غرب والغرب شرق، والشمال جنوب والعكس، والسماء تحت والأرض فوق، أنا ببين في المقدمة وهذا اصطلاح، نقول: لا، لكن إذا كان لا يغير هذا الاصطلاح من الواقع شيء، الخارطة بدل ما تكون الشمال فوق اجعل تحت تقلب الخارطة لا بأس، الحكم ما يتغير، ابن حوقل في صورة الأرض يجعل الجنوب هو الذي فوق، وما يتغير شيء من الحكم، لكن ((شرقوا أو غربوا)) في الحديث، تقول: لا أنا الشرق عندي جنوب والجنوب ... نقول: لا، فالاصطلاح الذي يترتب عليه حكم ويخالف هذا الاصطلاح لا بد من مشاحته، فيشاحح البغوي على هذا الاصطلاح ويناقش، فحكمه على أحاديث السنن بأنها حسان مردود عليه، رد عليه إذ بها غير الحسن، بلا شك لأن فيها الصحيح وفيها الضعيف.
¥