قال المهايميّ: سميت به لاشتمالها على تفاصيل دعوته و أدعيته.
(إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) يقول تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام أنه أرسله إلى قومه , رحمة لهم و إنذارا لهم من عذاب الله الأليم , خوفا من استمرارهم على كفرهم , فيهلكهم الله هلاكا أبديا , و يعذبهم عذابا سرمديا.
(قال يا قوم إنّي لكم نذير مبين) أي: أخوفكم من عواقب كفركم بالله و شرككم به.
(أن اعبدوا الله و اتّقوه و أطيعون) أي: اعبدوا الله وحده و لا تشركوا به شيئا و اتقوه فلاتعصوه بترك عبادته و لا بالشرك به , و أطيعون فيما آمركم به و أنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي و ربكم , و لا آمركم إلا بما يكملكم و يسعدكم و لا أنهاكم إلا عما يضركم و لا يسركم.
(يغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى أجل مسمّى) إذا فعلتم ما أمرتكم به و صدقتم ما أرسلت به إليكم , غفر الله لكم ذنوبكم – و بالتالي يحصل لهم النجاة من العذاب , و الفوز بالثواب – و يمد في أعماركم و يدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما أنهاكم عنه , أوقعه بكم.
(إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر لو كنتم تعلمون) إن العذاب الذي كتبه على من كذب و تولى محقق غير مؤخر فلو كنتم من أهل العلم و النظر لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه و استغفرتموه.
(قال ربّ إني دعوت قومي ليلا و نهارا) قال نوح عليه السلام - بعد أن بذل غاية الجهد في دعوة قومه , و ضاقت عليه الحيل , في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما - و هو يشكو إلى ربّه إني دعوة قومي إلى عبادتك و توحيدك ليل نهار , و ذلك امتثالا لأمرك و ابتغاءً لطاعتك.
(فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارا) أي: كلما دعوتهم إلى الإيمان بك و عبادتك وحدك , فرُّوا مني و من الحق الذي أرسلتني به.
(و إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم) و إنما كلما دعوتهم ليؤمنوا بك و يتوبوا إليك لتغفر لهم سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه – كما أخبر تعالى عن كفار قريش " و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون " – و تغطوا بثيابهم من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في الدين , و بُعدا عن الحق و بغضا له.
(و أصروا و استكبروا استكبارا) أي: استمروا على ما هم فيه من الشرك و الكفر العظيم الفظيع , و تعاظموا عن الإذعان للحق و قبول ما دعوتهم إليه من النصيحة.
(ثم إني دعوتهم جهارا ثم إنّي أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا) ثم إني دعوتهم إلى توحيدك في عبادتك و إلى ترك الشرك فيها مرة بعد مرة , على وجوه متنوعة , ما بين مجاهرة و إظهار بلا خفاء , و ما بين إعلان و صياح بهم , و ما بين إسرار فيما بيني و بينهم في خفاء , و هذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف , و الناهي عن المنكر أن يقوم بها.
(فقلت استغفروا ربكم إنّه كان غفّارا) أي: ارجعوا إليه و ارجعوا عما أنتم فيه و توبوا إليه من قريب , فإنه من تاب إليه تاب عليه , و لو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر و الشرك.
(يرسل السماء عليكم مدرارا) أي نزل عليكم المطر متتابعا , يروي الشعاب و الوهاد , و يحيي البلاد و العباد.
(و يمددكم بأموال و بنين) أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا و أولادكم.
(و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا) أي: و جعل لكم بساتين فيها أنواع الثمار , و خللها بالأنهار الجارية بينها.
(ما لكم لا ترجون لله وقارا) أي: أي شيء جعلكم لا ترون لله عظمة إذ تشركون معه ما لا يسمع و لا يبصر , فلا تخافون من بأسه و نقمته.
(و قد خلقكم أطوارا) أي خلقكم حالا بعد حال , فطورا نطفة , و طورا علقة , و طورا مضغة .. و هكذا طورا بعد طور. و مقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه و أخذه , لعظيم قدرته.
(ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) أي: كل سماء فوق الأخرى.
(و جعل القمر فيهنّ نورا و جعل الشّمس سراجا) ففاوت بينهما في الإستنارة , فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة , ليعرف الليل و النهار بمطلع الشمس و مغيبها , و قدر القمر منازل و بروجا , و فاوت نوره , فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر , ليدل على مضي الشهور و الأعوام , كما قال تعالى " هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدّره منازل لتعلموا عدد السّنين و الحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ يفصّل الآيات لقوم يعلمون ".
(و الله أنبتكم من الأرض نباتا) إذ أصلكم من تراب , و النطف أيضا من الغذاء المكون من التراب , ثم خلقتكم تشبه النبات و هي على نظامه في الحياة و النماء.
(ثم يعيدكم فيها) أي: في الأرض بعد الموت فتدفنون فيها.
(و يخرجكم إخراجا) أي: يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة.
(و الله جعل لكم الأرض بساطا) أي: مفروشة مبسوطة صالحة للعيش فيها و الحياة عليها.
(لتسلكوا منها سُبلا فجاجا) أي: خلقها لكم لتستقروا عليها و تسلكوا فيها أين شئتم , من نواحيها و أرجائها و أقطارها.
و كل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله و عظمته في خلق السماوات و الأرض , و نعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية و الأرضية , فهو الخالق الرازق , جعل السماء بناءً , و الأرض مهادا , و أوسع على خلقه من رزقه , فهو الذي يجب أن يعبد و يوحد و لا يشرك به أحد , لأنه لا نظير له و لا عديل له , و لا ندّ و لا كفء , و لا صاحبة و لا ولد , و لا وزير و لا مشير , بل هو العلي الكبير.
يتبع ...
¥