(و التفّت السّاق بالسّاق) أي: اجتمعت الشدائد و التفت , و عظم الأمر و صعب الكرب , و أريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن , فتساق إلى الله تعالى , حتى يجازيها بأعمالها , و يقررها بفعالها. أو إلتقت إحدى ساقيه بالأخرى و التفتا في الكفن.
(إلى ربك يومئذ المساق) أي: المرجع و المآب , و ذلك أن الروح ترفع إلى السموات , فيقول الله عز وجل: ردوا عبدي إلى الأرض , فإني منها خلقتهم , و فيها أعيدهم , و منها أخرجهم تارة أخرى , و قد قال الله تعالى: " و هو القاهر فوق عباده و يرسل عليكم حفظة حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفّته رسلنا و هم لا يفرِّطون , ثم ردُّوا إلى الله مولاهم الحقّ ألا له الحكم و هو أسرع الحاسبين ".
(فلاصدّق و لا صلى , و لكن كذّب و تولّى) هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه , متوليا عن العمل بقالبه , فلا خير فيه باطنا و لا ظاهرا.
و قد دلّت الآية على أن الكافر يستحق الذم و العقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان.
(ثمّ) أي مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى (ذهب إلى أهله يتمطّى) أي: يتبختر في مشيته استكبارا و كسلانا لا همة له و لا عمل , كما قال تعالى " و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ".
(أولى لك فأولى , ثم أولى لك فأولى) أي: ويل لك مرة بعد مرة. فهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر في مشيته.
(أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أيظن الإنسان أنه سوف يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر و لا ينهى , و أنه يترك في القبر سدى لا يبعث , كلا , بل هو مأمور منهي في الدنيا , محشور إلى الله في الدار الآخرة. و المقصود هنا إثبات المعاد , و الرد على من أنكره من أهل الزيغ و الجهل و العناد , و لهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال " ألم يك نطفة من منيّ يمنى , ثم كان علقى فخلق فسوى ".
(ألم يك نطفة من منيّ يمنى) أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين , يراق من الأصلاب في الأرحام.
(ثم كان علقة فخلق فسوّى) ثم صار دما ثم مضغة , ثم شُكِّل و نفخ فيه الروح , فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء , ذكرا أو أنثى بإذن الله و تقديره , و لهذا قال (فجعل منه الزوجين الذّكر و الأنثى).
(أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) أي: أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟.
ـ[عبدالحي]ــــــــ[08 - Oct-2008, مساء 10:39]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة المدثر
و هي مكية و آياتها ست و خمسون آية
لما أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه و سلم في غار حراء و قرأ عليه أوائل سورة العلق , فتر الوحي عنه صلى الله عليه و سلم مدة , ثم بعدها أنزلت سورة المدثر , فكانت أول شيء نزل عليه الصلاة و السلام بعد فترة الوحي.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم و هو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء , فرفعت بصري قِبَل السماء , فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض , فجُئِثْت منه حتى هويت إلى الأرض , فجئت أهلي , فقلت: زملوني زملوني , فزملوني , فأنزل الله " يأيها المدّثر , قم فأنذر " إلى " فاهجر ". رواه البخاري و مسلم
جُئِثْت: أي ذُعرت و خفت.
(يأيها المدّثر) أي: المتلفف في ثيابه – و هو النبي صلى الله عليه و سلم – لأنه كان على تلك الحالة وقت نزول الوحي.
و في هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذْ ناداه بحاله , و عبر عنه بصفته , ليستشعر اللين و العطف من ربه سبحانه و تعالى.
(قم فأنذر) قم من مضجعك و دثارك و شمر عن ساق العزم و أنذر قومك في مكة و كل الثقلين – الإنس و الجن – من وراء مكة , أنذرهم عذاب النار على الكفر و الشرك بالواحد القهار. و بهذا حصل الإرسال , كما حصل بأوائل سورة العلق النبوة.
(و ربّك فكبر) أي: وربّك فعظمه تعظيما يليق بجلاله و كماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه و العظيم الذي لا أعظم منه , فلا تذل إلا له و لا ترغب إلا فيه و كبره بأعمالك فلا تأت منها إلاّ ما أذن لك فيه أو أمرك به.
¥