(بل الإنسان على نفسه بصيرة , و لو ألقى معاذيره) أي: عندما يتقدم الإنسان للإستنطاق فيخبر بما قدم و أخّر هناك يحاول أن يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه و يختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه , و لو اعتذر و أنكر لا يقبل ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه و لأن استعتابه قد ذهب وقته و زال نفعه " فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون ".

(لا تحرك به لسانك لتعجل به) هذا تعليم من الله عز و جل لرسوله صلى الله عليه و سلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك , فإنه كان يبادر إلى أخذه , و يُسابق الملك في قراءته مخافة أن يتفلت منه , فأمره الله عز و جل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له , و تكفل له أن يجمعه في صدره , و أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه , و أن يبينه له و يفسره و يوضحه. و هذه الآية مثل قوله تعالى " و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ".

(إنّ علينا جمعه) إنّ نتكفل بجمع القرآن في صدرك , و إثبات حفظه في قلبك , بحيث لا يذهب عليك منه شيء.

(و قرءانه) أي: أن تقرأه بعدُ فلا تنسى.

(فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه) إذا تلاه عليك جبريل عليه السلام عن الله عز و جل , إستمع له , ثم اقرأه كما أقرأك , و اعمل بشرائعه و أحكامه.

(ثمّ إنّ علينا بيانه) أي: إنّا نبيّن لك ما يشكل عليك من معانيه حتى تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به.

و في هذه الآيات أدب لأخذ العلم , أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها , فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه , و كذلك إذا كان في أول الكلام أن لا يبادر برده أو قبوله , حتى يفرغ من ذلك الكلام , ليتبين ما فيه من حق أو باطل , و ليفهمه فهما يتمكن به من الكلام عليه.

و فيها: أن النبي صلى الله عليه و سلم كما بيّن للأمة ألفاظ الوحي , فإنه قد بين لهم معانيه.

(كلا بل تحبون العاجلة) أي: إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة و مخالفة ما أنزل الله عز و جل على رسوله صلى الله عليه و سلم من الوحي الحق و القرآن العظيم: أنهم إنما همّتهم و حبهم متوجه إلى دار الدنيا العاجلة , و ذلك بإيثار لذاتها و شهواتها.

(و تذرون الآخرة) أي: بالإعراض عن الأعمال التي تورث منازلها , أو تنسون الآخرة ووعيدها , و هول حسابها و جزائها.

(وجوه يومئذ ناضرة) أي حسنة بهيَّة مشرقة مسرورة.

(إلى ربها ناظرة) أي تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم , منهم من ينظره كل يوم بكرة و عشيا , و منهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة , فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم , و جماله الباهر , الذي ليس كمثله شيء , فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم , و حصل لهم من اللذة و السرور ما لا يمكن التعبير عنه.

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة " قال " يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة و تنجنا من النار؟ " قال: " فيكشف الحجاب , فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم , و هي الزيادة ". ثم تلا هذه الآية: " للذين أحسنوا الحسنى و زيادة " رواه مسلم. و في الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر , فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و لا قبل غروبها فافعلوا ".

(ووجوه يومئذ باسرة) هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة كالحة مسودة عابسة لجهامة هيآتها , و هول ما تراه هناك من الأهوال , و أنواع العذاب و الخسران.

(تظُنُّ أن يفعل بها فاقرة) أي تستيقن أنها هالكة و أنه ينتظرها عقوبة شديدة , و عذاب أليم.

(كلاّ إذا بلغت التراقي) أي بلغت النفس أعالي الصدر. قال الرازي: يكنى ببلوغ النفس التراقي , عن القرب من الموت. و نظيره قوله تعالى " حتى إذا بلغت الحلقوم ".

(و قيل من راق) قال ابن جرير: أي وقال أهله: منْ ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به , و طلبوا له الأطباء و المداوين , فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئا.

(و ظنّ أنّه الفراق) أي أيقن أنه الفراق لدنياه و أهله و ذويه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015