(و إذا رأيت ثَمَّ) و إذا رأيت يا محمد هناك , يعني في الجنة و نعيمها و سعَتَها و ارتفاعها و ما فيها من الحَبْرَة و السرور.
(رأيت نعيما و مُلكا كبيرا) أي: مملكة لله هناك عظيمة و سلطانا باهرا. و ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها , و آخر أهل الجنة دخولا إليها: " إنّ لك مثل الدنيا و عشرة أمثالها ". فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة , فماظنك بما هو أعلى منزلة , و أحظى عنده تعالى.
(عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق) أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير , و منه سندس , و هو رفيع الحرير كالقمصان و نحوهما مما يلي أبدانهم , و الإستبرق و هو ما غلظ من الديباج و فيه بريق و لمعان , و هو مما يلي الظاهر , كما هو المعهود في اللباس.
(و حلّو أساور من فضّة) حلّوا في أيديهم أساور الفضة , ذكورهم و إناثهم. و هذه صفة الأبرار , و أما المقربون فكما قال: " يُحَلّون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير ".
(و سقاهم ربهم شرابا طهورا) لا كدر فيه بوجه من الوجوه , مطهرا لما في بطونهم من كل أذى و قذى.
(إنّ هذا) الجزاء الجزيل و العطاء الجميل (كان لكم جزاءً) على ما قدمتم من الصالحات (و كان سعيكم مشكورا) أي مجازًى عليه غير مضيَّع , بل جزاكم الله على القليل بالكثير.
(إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا) إن هذا القرآن ما افتريته و لا جئت به من عندك و لا من تلقاء نفسك كما يقول المشركون , بل هو وحي منزل من عندنا , نزلناه عليك شيئا فشيئا لحكمة بالغة.
و القصد من هذا تثبيت قلبه صلوات الله عليه , و شرح صدره و تحقيق أن المنزّل وحي. و عدم المبالاة برميهم له بالسح و الكهانة.
(فاصبر لحكم ربك) أي: كما أكرمك بما أنزل عليك , فاصبر على قضائه و قدره , و اعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره.
(و لا تطع منهم آثما أو كفورا) لا تطع الكافرين و المنافقين إن أرادوا صدّك عما أنزل إليك , بل بلّغ ما أنزل إليك من ربك , و توكل على الله , فإن الله يعصمك من الناس. و الآثم هو الفاجر في أفعاله , و الكفور هو الكافر قلبه.
(واذكر اسم ربك بكرة و أصيلا) لما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله , و الإكثار من ذكره , أمره الله بدعائه و تسبيحه و الصلاة له في أول النهار و آخره , فدخل في ذلك , الصلوات المكتوبات و ما يتبعها من النوافل , و الذكر , و التسبيح , و التهليل , و التكبير في هذه الأوقات.
(و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا) كقوله: " و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا " , و كقوله: " يا أيّها المزّمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه و رتّل القرآن ترتيلا " – و في هذه الأوامر ما يدل على العناية بقيام الليل و الحرص عليه – و القصد من هذا حثه صلى الله عليه و سلم أن يستعين في دعوة قومه و الصدع بما أمر به , بالصبر على أذاهم و الصلاة و التسبيح. و قد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله: " و استعينوا بالصّبر و الصلاة " و قوله: " فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب , و من الليل فسبّحه و أدبار السّجود ".
(إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا) إنّ الكفار و من أشبههم من المكذبين لك أيها الرسول – بعدما بيّنت لهم الآيات , و رغبوا و رهبوا , و مع ذلك , لم يفد فيهم ذلك شيئا – لا يزالون يؤثرون حبّ الدنيا و الإقبال عليها و الإنصباب إليها , فيسعون لها جهدهم , و إن أهلكوا الحرث و النسل , تاركين للعمل الصالح مهملين له , غير آبهين بما ينتظرهم من يوم شديد مقداره خمسين ألف سنة. فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا و الإقامة فيها.
(نحن خلقناهم و شددنا أسرهم) أي: أوجدناهم من العدم , و أحكمنا خلقهم بالأعصاب , و العروق , و الأوتار , و القوى الظاهرة و الباطنة , حتى تمّ الجسم و استكمل , و تمكن من كل ما يريده.
(و إذا شئنا بدّلنا أمثالهم) و إذا شئنا بعثناهم يوم القيامة , و بدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا. و هذا استدلال بالبداءة على الرجعة. و قال ابن زيد و ابن جرير في معنى الآية: و إذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم , كقوله: " إن يشأ يُذهبكم أيّها النّاس و يأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا " , و كقوله: " إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد , و ما ذلك على الله بعزيز ".
(إنّ هذه تذكرة) إن هذه السورة عظة يتذكر بها المؤمن , فينتفع بما فيها من التخويف و الترغيب.
(فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا) أي: طريقا موصلا إليه , فالله يبين الحق و الهدى , ثم يخير الناس بين الإهتداء بها أو النفور عنها , مع قيام الحجة عليهم.
(و ما تشاءون إلاّ أن يشاء الله) قال ابن جرير: أي و ما تشاءون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم , لأن الأمر إليه لا إليكم , أي لأن مالم يشأ الله و قوعه من العبد , لا يقع من العبد و ما شاء منه و قوعه , و قع. و هو رديف {ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن}.
(إن الله كان عليما حكيما) أي: عليم بمن يستحق الهداية فيُيسّرها له , و يقيض له أسبابها , و من يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى , و له الحكمة البالغة , و الحجة الدامغة.
(يُدخل من يشاء في رحمته) أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها , و هو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى , حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان و الطاعة.
(و الظالمين أعدّ لهم عذابا أليما) أي: الذين اختاروا الشقاء على الهدى , أهانهم و أعدّ لهم عذابا مؤلما موجعا.
¥