* الدعاء والمسألة مع طلب العلم؛ فإنه رحمه اللَّه لم يعتمد على عقله في فهم النصوص مع ما آتاه اللَّه من عقلية فذة، وملكة خارقة للعادة؛ ـ لو وزعت على كثير من الخلق لوسعتهم ولصار الواحد منهم إماماً عدلاً، يستقل بفهمه للنصوص عن الآخرين ـ بل يتوجه إلى اللَّه تعالى لمن بيده مقاليد الفهم إلى مفهم سليمان، إلى معلم آدم، وإبراهيم بكليته، وجمعيته منطرحاً بين يديه ضارعاً، سائلاً اللَّه التوفيق للصواب، فيفتح اللَّه عليه؛ وما كان اللَّه ليرد مثله، أو يُعْجِمَ فهمه.
* طلب الخلوة باللَّه حال الدعاء مع إظهار العبودية الحقة؛ وذلك بالافتقار، والانكسار للَّه، وإظهار الضعف والحاجة كحال زكريا عليه السلام قال تعالى: {. . . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآء خَفِيّاً}، فلا يعلم به أحد حال دعائه سوى اللَّه، وهو أدعى للقبول، والإجابة.
قال ابن كثير رحمه اللَّه: ((إنما أخفاه لأنه أحب إلى اللَّه)).اهـ
وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ. . .}
قلت:أي: بعد أن رأى فضل اللَّه على مريم وقد أعطاها شيئاً في غير وقته، فرغب عليه السلام عند ذلك في شيء قد فاته، ما كان ليَرِدَ على عقل من بلغه الكبر، واشتعل رأسه شيباً، ووهن العظم منه، وكانت امرأته عاقراً؛ ليسأله، ولكنها رحمة اللَّه، وإرادته الخير بعبده زكريا عليه السلام جاءت في إشارة مريم له: {. . . هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. . .}، فكما هو في وقته من عند الله يا نبي اللَّه زكريا؛ فكذلك هو في غير وقته من عند اللَّه.
وكأنه كان في انتظارها على قدر من اللَّه وتقدير فسأل مسألة ليس هذا وقتها؛ ولكنه أوان إجابتها.
فأنزل باللَّه حاجته، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، والأسباب الكونية بينه وبينها معدومة فلا سبيل يلتمسه إليها: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب. . .}، وجاءته البشرى.
فرحم الله شيخ الإسلام فقد كان في العلم رأساً؛ ومع ذلك يستزيد اللَّه مما إذا استزاد منه المستزيد علم يقيناً أنه مازال بحاجة إلى المزيد، فزيادته تبدي للمرء قلته.
ولذلك قال تعالى لنبيه آمراً ومعلماً: {. . . وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (14)؛ فلم يأمره سبحانه بالاستزادة من شيء سوى العلم.
قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى:
كلما أدبني الدهـ ــر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي
قال سعيد بن جبير: ((لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى، واكتفى بما عنده؛ فهو أجهل ما يكون)) (15).
قال ظافر بن جابر:
مازلت أعلم أولاً في أول حتى علمت بأنني لا علم لي
ومن العجائب أن أكون جاهلاً من حيث كوني أنني لا أجهل
وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشْكُرُونَ} (16).
* الجهل أصل في الإنسان عند ولادته:
إذاً الجهل أصل في الإنسان عند خلقه، وحين ولادته؛ لا يغض من إنسانيته حين ذاك؛ فإذا استوى، وبلغ أشده وبقي على أصله؛ فإنه ينقلب إلى صفة ذم، وقدح، ونقص؛ إذ حين ذلك كماله، وتمامه في العلم والمعرفة؛ ولذلك قال: {. . . وَجَعَلَ لَكُم السَّمْعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةِ. . .}، فلولم ينعم اللَّه بها على الإنسان لما كان شيئاً مذكوراً، ففي عدمها العدم.
وفي الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من يرد اللَّه به خيراً؛ يفقهه في الدين)) (17).
وهو سبحانه القابض للعلم كما هو الباسط له، فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) (18).
¥