بهذا الشأن، فباحثهم عليه وأخذ معهم فيه فلم يجد عندهم علماً أكثر مما في الكتب المذكورة، فلما رآهم على مثل هذه الحال بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها المتجولين فيها فسألهم عنها بواسطة جمعاً وأفراداً فما اتفق فيه قولهم وصح في جمعه نقلهم أثبته وأبقاه وما اختلفوا فيه أرجاه وألغاه، وأقام على ذلك نحواً من خمس عشرة سنة لا يخلي نفسه في كل وقت من النظر في هذا الفن والكشف عنه والبحث عن حقيقته إلى أن تم له فيه ما يريده، ثم أراد أن يستعلم يقينا صحّة ما اتفق عليه القوم المشار اليهم في ذكر أطوال مسافات البلاد وعروضها فأحضر إليه لوح الترسيم وأقبل يختبرها بمقاييس من حديد شيئا فشيئا مع نظره في الكتب المقدم ذكرها وترجيحه بين أقوال مؤلفيها.

عمل مجسّم للكرة الأرضيّة من الفضّة:

وأمعن النظر في جميعها حتى وقف على الحقيقة فيها فأمر عند ذلك بأن تفرغ له من الفضة الخالصة دائرة مفصّلة عظيمة الجرم ضخمة الجسم في وزن أربع مائة رطل بالرومي في كل رطل منها مائة درهم واثنا عشر درهماً فلما كملت أمر الفعلة أن ينقشوا فيها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها وما بين كل بلد منها وبين غيره من الطرقات المطروقة والأميال المحدوده والمسافات المشهوده والمراسي المعروفة على نص ما يخرج إليهم ممثلا في لوح الترسيم ولا يغادروا منه شيئا ويأتوا به على هيئته وشكله كما يرسم لهم فيه.

تأليف كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق:

فألّف الإدريسي كتاباً مطابقاً لما في أشكالها وصورها غير أنّه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والارضين في خلقها وبقاعها وأماكنها وصورها وبحارها وجبالها ومسافاتها ومزدرعاتها وغلاتها وأجناس بنائها وخواصّها والإستعمالات التي تستعمل بها والصناعات التي تنفق بها والتجارات التي تجلب إليها وتحمل منها والعجائب التي تذكر عنها وتنسب إليها وحيث هي من الأقاليم السبعة مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم وأن يسمى هذا الكتاب بكتاب (نزهة المشتاق في واختراق الآفاق) وكان ذلك في شهر شوال الكائن في سنة ثمان وأربعين وخمس مائة فامتثل فيه الأمر وارتسم الرسم، وأوّل ما ابتدئ به من ذلك الكلام على صورة الأرض المسماة بالجغرافية، كما سماها بطليموس ووصفها به. (2)

وفي خزائن المخطوطات العربيّة والأوروبيّة تتكدس مجموعة ضخمة من كتب الرحلات، تنتظر جهابذة المحقّقين والناشرين، لتملأ الفراغ الذي تركته في المكتبة العربيّة، حول كثير من القضايا الأثريّة والتاريخيّة والجغرافيّة.

معجم جغرافي عربي:

ويعتبر أبو عبيد البكري، أكبر جغرافي أنجبته الأندلس، فقد ألّف كتابين جليلين في الجغرافية أوّلهما (معجم ما استعجم) الذي يعد أوّل معجم جغرافي عربي وصل إلينا أورد فيه جملة مما ورد في الحديث والأخبار، والتواريخ والأشعار، من المنازل والديار، والقرى والأمصار، والجبال والآثار، والمياه والآبار، والدارات والحرار، منسوبة محدودة، ومبوّبة على حروف المعجم مقيّدة؛ أما كتابه الثاني فهو (المسالك والممالك). (3)

الاكتشافات الجغرافية المبكّرة:

وقبل أن يبادر المسلمون بركوب البحر في رحلة البحث عن العالم الجديد، فإنهم تخيّلوا وجود هذا العالم المجهول، فقال الشيخ محي الدين بن عربي: إن وراء المحيط أمماً من بني آدم وعمراناً.

ونقل ابن خلدون عن ابن رشد الثاني في المقدّمة قوله: أما ما وراء خط الاستواء في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشمال.

وممن تخيّلا وجود أمريكا ومهّدا السبيل للبّحار الجنوي (كريستوف كولومبس) أبو الثناء محمود الأصفهاني، وقطب الدين الشيرازي. (4)

ولم تتوقف تطلّعات البحارة العرب عند حدود العالم القديم، بل مدّوا بأبصارهم خلف المحيطات، وقد أعانهم على ذلك همّة عالية، ونظام سياسي مستقر، وعدل يحفظ حقوق العباد من طغيان الأقوياء.

وتحدثنا كتب التراث عن رحلة الفتى خشخاش البحري، مع جماعة من فتيان قرطبة، من ساحل الأندلس الغربي، حيث توغّلوا في بحر الظلمات، ثم عادوا بغنائم كثيرة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015