فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أنزلت " عبس و تولى " في إبن أم مكتوم الأعمى , أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يقول: أرشدني. قالت: و عند رسول الله صلى الله عليه و سلم من عظماء المشركين. قالت: فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يُعرض عنه و يقبل على الآخر , و يقول: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا , ففي هذا أنزل) قال الشيخ الألباني صحيح الإسناد.

و إبن أم مكتوم هذا إسمه عبد الله , قال الشهاب: و هو مكيّ قرشيّ من المهاجرين الأولين , و كان النبي صلى الله عليه و سلم يستخلفه على المدينة في أكثر غزواته , و كان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

(عبس و تولى) أي النبي صلى الله عليه و سلم , و معنى عبس قطب ما بين عيينه كراهية لما نَابه و حصل له مما أزعجه , " و تولى " أعرض عنه.

(أن جاءه الأعمى) أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام.

(و ما يدريك لعله يزّكى) أي يريد زكاة نفسه و تطهير روحه بما يتعلمه منك.

(أو يذّكر فتنفه الذكر) أي يعتبر و يتعظ فتنفعه موعظتك.

(أمّا من استغنى) أي بماله و قوته و شرف قومه عن سماع القرآن و الهداية و الموعظة.

(فأنت له تصدّى) أي تتعرض له مُقبلا عليه رجاء أن يسلم و يهتدي.

(و ما عليك ألاّ يزّكى) أي و ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام , إنْ عليك إلا البلاغ. قال الرازي: أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم , إلى أن تعرض عمن أسلم , للإشتغال بدعوتهم.

(و أمّا من جاءك يسعى و هو يخشى) جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحبّ الأسماء إليك يا رسول الله , و الحال أنه يخشى الله تعالى و يخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب و العذاب.

(فأنت عنه تلهى) أي تُعرض و تتشاغل بغيره.

و من هاهنا أمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم ألا يخص بالإنذار أحد , بل يساوي فيه بين الشريف و الضعيف , و الفقير و الغني , و السادة و العبيد , و الرجال و النساء , و الصغار و الكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم , و له الحكمة البالغة و الحجة الدامغة.

قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء و الإقبال عليهم في مجالس العلم و قضاء حوائجهم , و عدم إيثار الأغنياء عليهم. قال الزمخشري: لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا , فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

(كلاّ) لا تفعل مثل هذا مرة أخرى.

(إنّها تذكرة) أي هذه الآيات و ما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة , يجب الإتعاظ بها و العمل بموجبها.

(فمن شاء ذكره) أي عَمِل بهذا الوحي و التنزيل كقوله تعالى " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر ".

(في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة) صحف آيات التنزيل و سوره معظمة و موقرة عند الله تعالى , مرفوعة القدر و الرتبة , مطهرة من الدنس و الزيادة و النقص , و منزهة عن مس الشياطين لها.

(بأيدي سفرة , كرام بررة) بأيدي ملائكة , خُلقهم كريم حسن شريف , و أخلاقهم و أفعالهم بارة طاهرة كاملة.

و من هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله و أقواله على السداد و الرشاد.

(قتل الإنسان) لعن الإنسان – الكافر – و هذا الجنس الإنسان المكذب , لكثرة تكذيبه بلا مستند , بل بمجرد الإستبعاد و عدم العلم.

(ما أكفره) أي ما حمله على الكفر و الكبر.

قال الرازي: " قتل الإنسان " تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. و قوله " ما أكفره " تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح و المنكرات.

(من أي شيء خلقه) أي من أي شيء حقير مهين خلقه؟ و هذا تحقيرا له.

(من نطفة خلقه) خلقه الله من ماء مهين , من نطفة قذرة.

أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر و يتكبر و يستغني عن الله؟ فلينظر إلى مبدئه و منتهاه و ما بينهما. مبدأه نطفة مذرة و آخره جيفة قذرة , و هو بينهما حامل عذرة. كيف يكفر و كيف يتكبر؟

(فقدّره) أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة , ثم هيأه لما يصلح له و يليق به من الأعضاء و الأشكال , فسواه بشرا سويا. و كذلك قدّر أجله و رزقه و عمله و شقي أو سعيد.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015