، أهمّها زاد المسافر الذي حظي بمنزلة كبيرة جدا في المشرق العربي وفي الأندلس وكتاب طب الفقراء الذي لم يسبق أن ألّف فيه. واستطاعت مدرسة القيروان الطبيّة بفضل ابن الجزّار أن تضاهي مثيلتها بالمشرق وأن تشعّ على الثّقافة الأوروبية في القرون الوسطى وكان لها أبلغ الأثر في نقل المعارف الطبيّة العربيّة إلى بلدان الحوض الشّمالي للبحر الأبيض المتوسّط عبر جامعات سالرن ومونبلي وبلاد الأندلس. وقد ترجمت العديد من المؤلفات الطبيّة الإفريقية إلى اللاتينية واليونانيّة والعبريّة حتى أنّنا لا نعرف أي طبيب عربي حظي ممّا حظي به ابن الجزار من الترجمات إلي مختلف اللّغات العالميّة خاصّة عن طريق قسطنطين الإفريقي الذي ترجم كتاب الماليخوليا لإسحاق بن عمران وزاد المسافر وكتاب الخواص وكتاب المعدة وكتاب طب الفقراء والمساكين لابن الجزّار.

وقد تواصلت هذه المدرسة رافدا كبيرا من روافد المدرسة الطبيّة الأوروبيّة. المدرسة الأدبية

والقيروان اشتهرت إلى جانب ذلك بأدبائها وشعرائها ونقّادها. فبعد طور التلقي والدربة على الأساليب الشعريّة والبلاغية العربيّة، وبعد أن تم صقل المجتمع الإفريقي ليصبح مجتمعا عربيّا فكرا ولغة وعقيدة، انبرى المولدون لتقليد أفذاذ الأدب العربي فسطع نجم ابن هاني الأندلس (المتوفى سنة 362 هـ) بشعره الناضج والمتجبّر حتى سمّي بمتنبّي المغرب، ثم تبسط أهل إفريقية في العيش وركنوا إلي البذخ والترف ... وجنحوا إلى الآداب الرفيعة فزها الأدب ..... وراجت سوق الأفكار أيما رواج.

وبلغت حضارة القيروان أوجها في العهد الصنهاجي فخطر الأدب من نثر ونظم في حلّة التفنن والرقة. وظهر فيه الاختراع وبرز استقلال المغرب عن المشرق في إبداعاته ومصادر إيحاءاته ووجوه بيانه. وليس أدل على ذلك من ظهور حركة نقديّة مساوقة للإبداع الشعري فكان عمدة ابن رشيق (المتوفى سنة 456هـ) وسبقه ممتع إبراهيم النهشلي وتلاه كتاب رسائل الانتقاد لمحمّد بن شرف. ويقول ابن خلدون في شأن العمدة: " هو الكتاب الذي انفرد في صناعة الشعر وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله".

وتميّز من الشعراء الحصري القيرواني (المتوفى سنة 488 هـ) برقّة شعره وابن شرف (المتوفى سنة 460هـ) وكان لهما شرف تمثيل أدب الهجرة واللّوعة إلى الأوطان الذي تأثر به شعراء الأندلس فيما بعد ويضاف إليهما تميم ابن المعز

(المتوفى سنة 501هـ) الذي أبقى على ديوان ضخم ينبض وجدانا ومرارة. المدرسة المعماريّة

ومن البديهي أن ترتسم مختلف ملامح هذا التمدّن والتّحضر على العمارة فتنشأ مدرسة معماريّة قيروانيّة. فقد كانت القيروان في أول أمرها تتقبّل الأنماط الهندسية الواردة إليها من المشرق عامّة وعواصم الخلافة خاصّة، فتتولّى استيعابها ومزجها بالعنصر الإفريقي وهو ما سمح بنشأة مدرسة هندسيّة إفريقية ذات خصائص متميّزة تعرف بمدرسة القيروان نسبة إلى المدينة التي كانت تمثّل همزة الوصل بين المشرق والمغرب والتي أفرزت وأنضجت هذه الأنماط الهندسيّة حتى أصبحت قوالب معماريّة متعارفة.

وتختصّ مدرسة القيروان المعماريّة بتشبثّها بأنماطها التي بلورتها منذ أواسط القرن الثالث هجري وبوفائها لمناهلها الشامية الأصليّة رغم مواكبتها لبعض التيارات الزخرفيّة والمعماريّة التي ظهرت في العالم الإسلامي خلال العصر العبّاسي خاصّة فيما يتعلّق بالقباب ذات الحنايا الركنيّة والزّخارف المتأثّرة بطراز سامراء وان كان الفضل يعود إلى إفريقية في المحافظة على المدرسة الأمويّة، فإنها استطاعت كذلك تطويرها وإثرائها لتصبح متميّزة بها من خلال التخطيط المتعامد وإقامة قبّة ملاصقة لجدار القبلة عند التقاء البلاطة المحوريّة والبلاطة الموازية لجدار القبلة، وكذلك بالانفراد من دون المدارس المعماريّة الإسلامية بإضافة رواق للقبلة وإقامة قبّة في وسطه. وتبدو العمارة الأغلبية القيروانيّة منبسطة وممتدّة أفقيّا تتحاشى الارتفاع والأبّهة. كما تختص الزّخارف القيروانيّة من نباتيّة وهندسيّة بنضجها بالنسبة لمثيلاتها في الفن الأموي.

وقد امتازت مدرسة القيروان بتواصلها الزّمني بإفريقية وبانتشارها الجغرافي شرقا إلى مشارق النيل وغربا عند بحر الظّلمات.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015