(و إذا البحار سجّرت) أي أوقدت فصارت – على عظمها – نارًا تتوقد.
(و إذا النفوس زوّجت) أي قرنت بأجسادها – بعد خلق الأجساد لها – ثم قرن كل صاحب عمل مع نظيره , فجمع الأبرار مع الأبرار , و الفجار مع الفجار , و زوج المؤمنون بالحور العين , و الكافرون بالشياطين , و هذا كقوله تعالى " و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " " و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " " احشروا الذين ظلموا و أزواجهم ".
(و إذا الموءودة سئلت , بأي ذنب قتلت) يوم القيامة تسأل الموؤودة على أي ذنب قتلت , ليكون ذلك توبيخا و تقريعا و تهديدا لقاتلها , فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟! و قال ابن عباس " و إذا الموءودة سئلت " أي: سألت , و كذا قال أبو الضحى: " سألت " أي: طلبت بدمها. و عن السدي و قتادة مثله.
و عن حسناء إبنة معاوية الصُّريمية , عن عمها قال: قلت يا رسول الله , من في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة , و الشهيد في الجنة , و المولود في الجنة , و الموؤودة في الجنة " صححه الألباني.
و الموؤودة هي المقتولة الصغيرة التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات , و خشية العار و الفقر , أو لنذرهم إياهم للآلهة , أو يقولون إن الإناث بنات الله , فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا.
و كان للعرب تفنن في الوأد , فمنهم من إذا صارت بنته سداسية يقول لأمها: طيّبيها و زيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها , و قد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها , ثم يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. و منهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع , حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة , فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة , و إن ولدت إبنا حبسته.
و قد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال , جد الفرزدق بن غالب , بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية , و نهى عن قتلهن. قيل إنه أحيا ألف موءودة , و قيل دون ذلك.
فالوأد كان عادة من أشنع العوائد في الجاهلية , مما يدل على نهاية القسوة و تمام الجفاء و الغلظة. قال الإمام: أنظر إلى هذه القسوة و غلظ القلب و قتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر و العار , كيف استبدلت بالرحمة و الرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة.
(و إذا الصحف نشرت) قال ابن جرير: " أي صحف أعمال العباد نشرت لهم , بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات و السيئات " , فآخذ هذا كتابه بيمينه , و آخذ ذاك كتابه بشماله , أو من وراء ظهره.
(و إذا السماء كشطت) أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة عند سلخها.
(و إذا الجحيم سعّرت) أي: أوقد عليها فاستعرت , و التهبت إلتهابا لم يكن لها قبل ذلك. قال قتادة: و إنما يسعرها غضب الله و خطايا بني آدم.
(و إذا الجنة أزلفت) أي قرّبت لأهلها ليدخلوها.
(علمت نفس ما أحضرت) أي: إذ وقعت هذه الأمور , علمت كل نفس عند ذلك , ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة , أو شر فتصير به إلى النار , أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به , و ما الذي كان فيه صلاحها من غيره.
(فلاأقسم بالخنس , الجواري الكنس) قال الشيخ عبد العظيم بدوي: الخُنَّس هي النجوم تخنس – أي تختفي و تغيب عن الأنظار نهارا – بالنهار , و تظهر بالليل. " الجواري الكنّس " التي تجري في بروجها و منازلها و مواقعها طول الليل ثم تغيب مع طلوع الفجر.
(و الليل إذا عسعس) أي أدبر و لم يبق إلا اليسير , و ذلك وقت السحر.
(و الصبح إذا تنفس) قال ابن جرير: يعني وضَوْءُ النهار إذا أقبل و تبيّن.
و جواب القسم قوله تعالى (إنّه لقول رسول كريم) يعني: إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم , أي: ملك شريف حَسَن الخلق , بهي المنظر , و هو جبريل عليه الصلاة و السلام.
فالله تعالى قد أقسم بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه و سلم , و ما يقول محمد صلى الله عليه و سلم هو كلام الله ووحيه صدقا و حقا.
(ذي قوّة) أي على تحمل أعباء الرسالة , و على كل ما يؤمر به.
و من قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم. فهو شديد الخَلْق , شديد البطش و الفعل.
¥