فهكذا يظهر نفاقُ كثيرين عند الفتن،عند الأحداث الجسام، حين تعرض الشبهات أو تأتي الشهوات، كما حدث لبعض من تكلم بالإسلام من أهل مكة يوم الهجرة، ولبعض من تكلم بالإسلام في المدينة يوم أحد.
وجاء في سبب نزول الآية الثانية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 97)
يقول بن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ: عن بن عباس رضي الله عنه قال. (كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم،فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا، فاستغفروا لهم فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 97).
قال: فكُتِبَ إلى من بقى بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: 10)
فكَتَبَ المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأَيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 110)
فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا مَنْ نجا وقتل من قتل)
أما الآية الثالثة وهي قول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:من الآية 49]
فنزلت في قوم تكلموا بالإسلام بمكة وخرجوا في صفوف الكافرين يوم بدر، وحين تراصت الصفوف للقتال، نظروا للمسلمين فاستقلوهم وقالوا (غرً هؤلاء دينهم). بهذا قال الطبري وابن كثير والسعدي والقرطبي وغيرهم.
فكانوا موجودين إذا بمكة. ذات النفسية التي نافقت في المدينة كانت موجودة بمكة. والسؤال: ِلم لمَ ظهر النفاق ــ بهيئته وصفاته المعروفة ـــ في المدينة دون مكة؟
إنه العامل الثاني: وجود من يراود ويروض، وهم يهود.
لماذا يهود تحديدا؟
اليهود لم يكونوا يوما ما رأس حربه في أي قضية من قضاياهم هم فضلا عن غيرهم، ـ كما يقول الشيخ سفر الحوالي ـ.اتفقوا على مخالفة النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وعداوته، ولم يخرجوا إليه، بل قلَّبوا الأحزاب حتى أحاطوا بالمدينة ولم يشاركوا معهم بجيش ... فقط غدرت قريظة حين بدى لها أن معسكر المسلمين في خطر قد يذهب به.
وكان المنطق يقول أن يبدؤوه بالقتال حين هاجر إلى المدينة، وأن يقضوا على الدعوة في مهدها، ولكنها يهود.
بل لم يتعاونوا مع بعضهم حين كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل فريقا منهم. وتدبر:
أُجْلِيَت بنو قينقاع، وجيرانُهم من بني قريظة والنضير يتفرجون ولم يحركوا ساكنا؛ تدخل المنافقون في شخص عبد الله بن سلول من أجل يهود ولم تتدخل بني النضير وقريظة ولا يهود خيبر ووادي القرى وفدك لنصرة إخوانهم. وقد أخذ الله عليهم الميثاق بهذا.
وحدث ذات الشيء مع بني النضير ـ وفيهم أسياد يهود ـ ولم تتحرك قريظة ولا يهود خيبر ووادي القرى وفدك لنصرتهم. اللهم المنافقون، وكانت نصرتهم لهم قولا قالوه خفية وحين الفعل خنسوا ولم ينصروهم بقتال ولا بخروج
وحوصرت قريظة ورضيت بالتحكيم (وهي تعلم أنه الذبح) ولم تقاتل.
¥