وجاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس وإن المؤمنين لما أُخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم: وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان الله ـ أو كما قالوا ـ أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم.فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت " فما لكم في المنافقين فئتين ... الآية ".

وجاء في تفسير القرطبي أيضا: أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ; فأصابهم وباء المدينة وحماها؛ فأركسوا فخرجوا من المدينة , فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: ما لكم رجعتم؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها ; فقالوا: ما لكم في رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ أسوة؟! فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا , هم مسلمون ; فأنزل الله عز وجل: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " الآية.

قلتُ: قولهم (إن لقينا أصحابُ محمدٍ فليس علينا منهم بأس)، هذا المنطق يبين لك حال هذه النفسية، وأنها كأختها التي ظهرت في المدينة ومارست النفاق عمليا. إذ أن القاسم المشترك بينهم هو خوف الدوائر (نخشى أن تصيبنا دائرة) ... (إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس).اتخذوا حبلا مع الكافرين بعَدم مشاكستهم والنكير عليهم وهجر مجالسهم والهجرة من بين أظهرهم، واتخذوا حبلا مع المسلمين بإظهار شعائر الإسلام.

رأوا خلافا قد اشتد بين فريقين وهم يخالطون هذا ويخالطون ذاك، ويرجون السلامة في أنفسهم وأموالهم وأهليهم، فراحوا يبحثون عن طريقةٍ يأمنون بها من هذا ويأمنون بها من ذاك.

والفريق الآخر الذي لم يهاجر أو هاجرَ ثم عاد هذا الفصيل كان مسلما عند نفسه وعند من يعلمه من المسلمين، وحين جاء البلاء ظهر منه النفاق. لم يقوَ إيمانه على الهجرة ... على هجر الأوطان ومراتع الصبا، وهو كمن ظهر نفاقهم يوم أُحد ونزل فيهم قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] [آل عمران: 166، 167]

يقول شيخ الإسلام بن تيمية: (عامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يَصِلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة. وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق. وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا كانوا من أهل الوعيد ولهذا لما قَدِمَ النبيُ ــ صلى الله عليه وسلم ــ المدينة أسلم عامة أهلها فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق. فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين ابتلوا فظهر صدقهم). ويقول (فإن ابن أُبي لما انخزل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. انخزل معه ثلث الناس قيل: كانوا نحو ثلاثمائة وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015