بَعْدَ عَوْدَةِ ابْنِ بَطَّةَ إِلَى وَطَنِهِ مِنْ رِحْلَاتِهِ الْكَثِيرَةِ, لَازَمَ بَيْتَهُ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ فَقَدَ سَاقَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ "الْمُنْتَظِمِ": مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا فَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إِلَى الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّلَوِيِّ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مِنْ الرِّحْلَةِ لَازَمَ بَيْتَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يُرَ فِيهَا فِي سُوقٍ وَلَا رُئِيَ مُفْطِرًا إِلَّا فِي يَوْمَي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ, وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ خَبَرٌ مُنْكَرٌ إِلَّا غَيَّرَهُ. (قال المحقق: فَمَفْهُومُ الْعُزْلَةِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ, عَدَمَ الْخَوْضِ فِي الْفِتَنِ أَوْ الِاشْتِرَاكِ فِي وَظَائِفِ الْحُكْمِ, وَلَا يَعْنِي الِانْقِطَاعَ عَنْ نَشْرِ الْعِلْمِ بَيْنَ الطُّلَّابِ وَهَذَا هُوَ مَا فَعَلَهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي عُزْلَتِهِ.

وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى إِفَادَةِ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ الَّتِي دَفَعَتِ ابْنَ بَطَّةَ إِلَى الْعُزْلَةِ وَالْعُكُوفِ عَلَى التَّدْرِيسِ حَتَّى لَا تَتَشَتَّتَ جُهُودُهُ فِي أَغْرَاضٍ أُخْرَى تَصْرِفُهُ عَنْ عُلُومِهِ وَتَلَامِيذِهِ, وَرُبَّمَا كَانَ يَدْفَعُهُ إِلَى ذَلِكَ رَوْحُ التَّدَيُّنِ الْغَالِبَةُ عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا مَعْرُوفًا بِالنُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ أَيْضًا مِنْ دَوَافِعِهِ إِلَى الْعُزْلَةِ مَا شَاعَ مِنَ الْمَظَالِمِ عَلَى أَيْدِي السَّلَاطِينِ فِي عَصْرِهِ حَتَّى لَمْ يَنْجُ مِنْهَا الْعُلَمَاءُ فَنَجَا بِنَفْسِهِ فِي عُزْلَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ شِهَابٍ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي يَعْلَى "قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ بَيْنَ العِشَائَيْنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ, فَقَالَ لِي: إِنَّنِي أَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ, وَقَدْ كَانَ اخْتَفَى لِأَمْرٍ طَغَى وَأَظُنُّهُ مِنَ السُّلْطَانِ وَدُفِعَ إِلَى كِتَابِ الْعُزْلَةِ".

وَقَدْ أَلَّفَ اِبْنُ بَطَّةَ مُؤَلَّفَاتِهِ الْعِلْمِيَّةَ خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ, وَظَلَّ كَذَلِكَ مُعْتَزِلًا لَمْ يَشْغَلْ نَفْسَهُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا, وَلَمْ يَلِ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ شَيْئًا بَلْ ظَلَّ مُقْبِلاً عَلَى التَّأْلِيفِ وَالتَّدْرِيسِ حَتَّى وَافَاهُ أَجَلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ذكر عبادته، ومكانته الدينية:

قَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ: صَاحِبُ أَحْوَالٍ وَإِجَابَةِ دَعْوَةٍ. وَقَالَ الْعُتَيْقِيُّ: "وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ"وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا عَنْهُ: "إِنَّهُ أَحَدُ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ"

وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدَّلَوِيَّ قَالَ لَمَّا رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مِنْ الرِّحْلَةِ لَازِمَ بَيْتَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يُرَ خَارِجًا فِي سُوقٍ وَلَا رُئِيَ مقطرا إِلَّا فِي يَوْمَي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ " ذَكَرَ ابْنُ الْعِمَادِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَكَانَ يَجْعَلُ عَشَاءَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ بِيَسِيرٍ وَلَا يَنَامُ حَتَّى يُصْبِحَ". قَالَ ابْنُ أَبِي يَعْلَى: "وَسَمِعْتُ نَصْرَ بْنَ الْفَرَجِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَهُوَ صَائِمُ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَرَأَيْتُهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى طَوَابِقَ مَغْسُولَةٍ يَتَبَرَّدُ بِذَلِكَ". وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ لَهُ الْحَظُّ الْوَافِرُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ".

هَذِهِ نُبَذٌ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّتِي وَصَفَتْ عِبَادَتَهُ وَتَدَيُّنَهُ وَوَرَعَهُ وَزُهْدَهُ هَكَذَا كَانَ دَأْبُ عُلَمَائِنَا مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.

وَفَاتُهُ:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015