واختلاف الروايات في الأشعار معروف مألوف، لا يرجع إلى تدبير أو تخطيط، والروايتان في نسخ الديوان، ورواية "بغاة العلا" قديمة مثبتة في عيون الأخبار لابن قتيبة (213 - 276)، وأخبار الزجاجي (-337)، ووساطة الجرجاني (-392)، وهلم نازلاً.

وقد قال الدكتور: إنه قرأه "بغاة العلا" في كتاب للعقاد! ولما اكتشف (المؤامرة) و (الملعوب) في تغيير هذا البيت بعد الاطلاع على الرواية الصحيحة (!) في الديوان، رجع إلى كتاب العقاد "اللغة الشاعرة" ووقف متحسّرًا على منظر البيت مغيَّرًا مزوَّرًا، فِعْلَ الذي ينظر مبتسمًا إلى من يريد أن يخدعه وهو فاهم لقصده، عارف بكيده! وكأني فهمت أنه ينسب هذا التغيير إلى العقاد!!

ولا أدري إلى أي نشرة من الديوان رجع؟ لأن النشرة المتداولة بشرح التبريزي وتحقيق محمد عبده عزام ونشر دار المعارف بمصر (3/ 183) فيها إشارة في الحاشية إلى أن من النسخ ما فيه الرواية الأخرى.

وكأن الدكتور فهم من "بغاة الندى" أنهم طالبو المال وأهل الكُدْية والإلحاف، والمراد - كما هو واضح لكل متذوق للشعر - طالبو الجود، وهم المعطُون المنفقون، فهو في معنى "بغاة العلا" أو "بناة العلا" أو "بناة الندى".

* * *

والقصيدة في مدح الوزير أحمد بن أبي دُوَاد، وأولها الغزل، وأول الخروج منه قوله:

ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويُكْدي الفتى في دهره وهو عالم

ولو كانت الأرزاق تجري على الْحِجا * هلكْنَ إذا من جهلهن البهائم

وكل سامع لهذا القول الشريف يفهم منه أنه يرمي إلى معنى معلوم مطروق، وهو أن الأرزاق ليست بالكياسة والعقل والجهد، ولكنها مقسومة مقدَّرة مكتوبة، ينال كل امرئ منها ما قُسم له. وهذا إذا قيل في معرض المدح فإنما هو للتوصل به إلى أن الله وضع المال في أيدي بعض الناس مبتليًا لهم به، فمنهم من أنفقه على عباده، وواسى به المحروم، وأسعف السائل، ومنهم من بخل به وكنزه وذاد عنه العافي، وحرم منه المتعفف. ولذلك أسلم هذان البيتان إلى ما بعدهما، وكانا مدخلاً إلى مدح الممدوح، لأن الممدوح من قبيل الأسخياء المنفقين:

جزى الله كفًّا ملؤها من سعادة * سَرَتْ في هلاك المال والمال نائم

فلم يجتمع شرقٌ وغرب لقاصد * ولا المجدُ في كفِّ امرئ والدراهم

فإنفاق المال من بناء المجد أو العلا أو الندى، وإمساكه عن وجوهه الواجبة من بناء المخازي والمذامّ والذكر القبيح.

وأما فهم الدكتور الغذامي فله وجهة أخرى (تآمرية) (خفية) (باطنية) (ردية)، فقال في البيتين الأولين: " هذا كلام ظاهره حسن، ولكن باطنه قبيح ... والموقف هنا يقوم على أن أبا تمام فقير ماديًّا وثري عقليًّا، والقاعدة التي يقولها البيتان هي أن العاقل فقير والجاهل غني، وعلى هذه القاعدة ... فلا بد إذًا أن ابن أبي دواد جاهل ... وكأنما يقول له: إن لديك المال ولدي العقل، ولذا عليك أن تعطيني بعض مالك لكي أعطيك بعض عقلي ". ثم استشهد بالبيت بعدهما على ما أراد.

وهذا الكلام يقوله من لا يعرف أحمد بن أبي دُوَاد الإيادي (160 - 240)؛ إذ هو معدود في المتكلمين والأدباء والقضاة، وكان أحد الدُّهاة، وفي ترجمته قول أبي العيناء: ما رأيت رئيسًا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد.

ولا يسوغ أن يقصد أبو تمام ما فسر به الغذامي كلامه، وإنما هو معنى في ذهنه، لم يجر في بال أبي تمام وابن أبي دواد منه شيء. والقوم كانوا من العقل ومن الفطنة ومن المعرفة بمرامي الكلام ومجاريه بموضع لا يجيز أن يُظَن بهم معه هذا الظن، فيكون هذا المعنى مما يقصده أبو تمام، ويغفل عنه ابن أبي دواد.

كلام الدكتور الغذامي إنما هو تفسير للشعر بمعزل عن الموقف الذي قيل فيه، وعن المعهود في مثله ونظيره وشبيهه، وعلى ذلك فسر الأبيات الآتية بعد:

ولم أر كالمعروف تُدعى حقوقُه * مغارمَ في الأقوام وهي مغانم

ولا كالعلا ما لم يُرَ الشعرُ بينها * فكالأرض غُفْلا ليس فيها معالم

وما هو إلا القول يسري فتغتدي * له غرر في أوجه ومواسم

يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهة * ويقضي بما يقضي به وهو ظالم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015