الدكتور الغذامي والفهم المتعسف

ـ[محمد خليل الزروق]ــــــــ[02 - عز وجلec-2010, صباحاً 01:39]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قرأت مقالة منذ تسع سنوات للدكتور عبد الله الغذامي في مجلة العربي (عدد 1/ 2001) بعنوان: "حكاية بيت من الشعر"، وأعْلَمْتُ على العدد من المجلة وعلى المقالة على نية العود إليها، والتعليق عليها، ولم يتيسر لي ذلك إلا الآن.

والبيت المراد هو قول أبي تمام:

ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم

ويروى: بغاة العلا، وبناة العلا.

* * *

كان للعرب مكارم من الأخلاق أتمها الإسلام، وكان الشعر ديوان العرب، وما زال، وكان الشعر هو الفن الأول في هذا اللسان العربي، وما زال، ذلك أن هذا اللسان لسان الإيقاع والوزن، ولسان الإيجاز واللَّمْح، مما لا يكون في ألسنة أخرى قوامها الفضول واللتّ والمضغ، والشعر أرقى مظهر لمزايا اللسان العربي، فيه تبدو عبقريته وجلالته، ونفوذه وبلاغته، ومقدرته وإصابته.

من أجل ذلك كان هذا الشعر سجل المفاخر والمآثر، وسجل المعايب والمثالب أيضًا، فهو مرآة للواقع بما فيه من خير وشر، ونفع وضر، وهو لا يخلو من الأكاذيب والأضاليل ككل الكلام الإنساني.

والمدائح في الشعر من خير دواوين المكارم وأنصعها وأرفعها وأجمعها - ومثلها المراثي، وهي أصدق وأنبل - والناس ينشدونها ويحفظونها ويقرءونها لا على أنها صدق كلها، لا شوب فيها من مبالغة أو كذب، ولكن لما تمثله من صنعة بيانية لها قيمة في نفسها ككل الفنون بمعزل عن مقاصدها ومراميها وما استعملها الشاعر له، ولما تمثله من مكارم خلقية كان منها حقائقُ ووقائع لا تُنكَر، وُجدت في كل عصر، من السخاء والشجاعة والنجدة والمروءة والصدق والإنصاف والعفاف والإيثار، ونراها اليوم في كثير من الناس، لا على ما قال القائل: ذهبت المكارم إلا من الكتب! فهذا يكذّبه الواقع التاريخي والواقع الحاضر، وإنما هو ضرب من التطير والتبرم والتشاؤم يغلب على نظر بعض الناس فلا يرون إلا ما يسوء وينوء، ويضر ويغُرّ!

* * *

يقول أبو تمام: لا يعرف الناس المكارم والخلال الحسنة والأخلاق الرفيعة إلا من الشعر. وهذا يجري على مذهب من المبالغة غير منكور ولا مستغرب، ذلك أن الناس يعرفون المكارم من الفطرة، ومن الدين، ومن الآباء والأجداد، ومن الكتب، ومن التجارب، ومن الشعر بما هو ديوان للمعاني والحكم والتواريخ، وهو في لسان العرب - بعد الوحي - أعلاها منزلة، وأنفذها أثرًا، وأجمعها جمعًا، وأتقنا وضعًا. ففي كلام أبي تمام مذهب يشبه القصر الادعائي، كما تقول: الشاعر المتنبي، وأنت لا تنكر أن يكون غيره شاعرًا، ولكنك تريد رفع منزلته وتفضيله على الشعراء، فالمراد إذًا: خير سجل للمكارم الشعر؛ لأنه يُبِينُ إبانة خاصة، ويبلغ ما لا يبلغه غيره، ويُحفَظ ويُروَى ويُدوَّن.

وقف الدكتور الغذامي عند لفظَي: "بناة العلا" و"بغاة الندى"، ورأى بعد ما نظر البيت في الديوان على رواية: "بغاة الندى"، وكان يحفظه: "بناة العلا" - أنه تغيير مقصود، وقال: " ولعل رغبة عميقة في النفس كانت وراء تعديل الرواية، وذلك من باب المحافظة على شرف ديوان العرب، وعلى شرف الشعر، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد دخل المديح إلى شعرنا فأفسده وأفسد أخلاق الأمة "، ومن رأيه أن هناك فرقًا بين "الندى" و"العلا"، وأن هذا التغيير " يكشف عن نسق ثقافي سلبي يضرب خطره في أعماق الشعر العربي الذي هو ديوان العرب ودفتر مآثر الأمة حسب المقولة الراسخة ... فالعلا مجد وارتفاع، وأما الندى فمذلة وشحاذة " (!).

وما كنت أدري أن من معاني "الندى" المذلة و (الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل المذلة و (الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل شيء ما كان، ولا أظن أنه يخطر ببال أحد أن يقول للدكتور الغذامي: ما (عقلية المؤامرة) هذه يا دكتور؟ أمن أجل لفظة في بيت جاءت بروايتين تزعم أنه تغيير قُصد منه ترويج الكاسد، وتزويق المقبوح، وتنفيق المردود؟ فالموصوفون بأن لهم (عقلية المؤامرة) قوم آخرون غير المتنورين! وما الضير لو قيل: إن "الندى" نوع من "العلا"؟

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015