ومرمى الكلام أن المزية البيانية - وأرفعها الشعر - فضيلة من الفضائل، ومن مآثر الشعر أن المكارم سُطِرت فيه، فبيّنها وشرحها ودلَّ عليها، وهو فوق ذلك ضرب من السحر، يمكن أن يجعل الحق باطلاً، والباطل حقًّا، بما فيه من قدرة لها سلطان البلاغة والبراعة في التزيين والتقبيح، والهجاء والمديح، فالشعر من الفضائل؛ ومن سلطانه أنه يستعمل في الباطل.
هذا ما يفهم من الأبيات، وأما فهم الدكتور الغذامي (التآمري) فغير ذلك، قال: " إذًا ما على ابن أبي دواد إلا أن يدفع ما في الجيب لكي يدافع ما في الغيب الشعري ... أما إذا لم يعط فالويل له من حكم الشعر، وهو حكم ظالم بلا شك، ولكنه نافذ ". فقد جعل هذا القول تهديدًا لابن أبي دواد، وجعل أبا تمام يتوعده إن لم يعطه المال. واعجبْ كيف يكون بذل المال جودًا مع التهديد؟! وكيف يرضى الممدوح - بل المادح - أن يكون المديح مقارِنًا للإنذار، واستنزال العطاء مصاحبًا للتخويف؟!
وقد حمل الغذامي هذه الأبيات على هذا المعنى وفيها ذكر الشعر، وأعجبُ منه حمله المديح الخالص من ذكر الشعر على هذا المعنى، وذلك قول أبي تمام:
إلى سالم الأخلاق من كل عائب * وليس له مال على الجود سالم
جدير بأن لا يصبح المال عنده * جديرًا بأن يبقى وفي الأرض غارم
وليس ببانٍ للعلا خلُق امرئ * وإن جلَّ إلا وهو للمال هادم
فهذا مديح صرف، وتقريظ للجود، وما دعاه إلى ذكر العيب إلا المقابلة بين ثبوت سلامة الأخلاق وانتفاء سلامة المال، على ما هو معروف من صنعة أبي تمام الشعرية، والبيت الأخير على هذا النحو، يقول: الجود أول المكارم، وعبر عن هذا بالتلازم بين هدم المال، وبناء العلا، قصدًا إلى إنشاء هذه الصورة التي قوامها الطباق بين البناء والهدم، وما المقصود بالهدم إلا الإنفاق.
وأما الدكتور الغذامي فلا يرى في الأبيات إلا تكرار لفظة "المال" - وهو شيء ليس بغريب عند الحديث عن الجود - ويقول: " ولذا يربط الشاعر بين العيب وبذل المال، ويشير إلى انتفاء العيب عن الممدوح بسبب بذله المال، مما يعني أن عدم بذل المال سيؤدي إلى ظهور العيوب ". والخلل في هذا الفهم أنه يرى العيب عيب الشاعر، والعيب المراد مذمة الناس لكل من يمسك المال، على ما هو معهود في ذم البخل والباخلين، لا على سيبل التهديد بالذم.
وبعد هذه الأبيات خرج أبو تمام إلى مدح قوم الممدوح "إياد"، وختم بأبيات قصد فيها إلى بيان ما بين الشعر والمكارم من علاقة، وهي أن الشعر سجل لهذه المكارم، يذكرها ويعرّفها ويحفظ للآخِرين ما فعل الأولون، ويُبقِي للاحقين مآثر السابقين، وقد تركها الدكتور الغذامي، ولم يأخذ منها إلا البيت الأخير:
فما بالُ وجهِ الشعرِ أغبرَ قاتِمًا * وأنف العلا من عُطلة الشعر راغم
تداركْه إن المكرمات أصابعٌ * وإن حُلَى الأشعار فيها خواتم
إذا أنت لم تحفظه لم يك بدعة * ولا عجبًا أن ضيعته الأعاجم
فقد هز عِطفيه القريضُ توقعًا * لعدلك مذ صارت إليك المظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
وكأن الدكتور الغذامي لم يجد في الأبيات الأربعة الأوَل مدخلاً لمذهبه في التفسير فجاوزها، وهي تقول: الشعر لا يستغني عن المكارم، والمكارم لا تستغني عن الشعر، كما هي الصلة بين الأقوال والأفعال، وبين العمل والصحيفة المثبَت فيها ذكرُه، وبين الوقائع وتواريخها الحاكية لها، وهو يشير إشارة مهمة، وهي قوله: إنك - يا ابن أبي دواد - إذا لم تحفظ للشعر مقامه ومنزلته - وأنت العربي الصريح - فهو عند الأعاجم أضيع، فهذا فن العرب الأول، وهم به أعرف، وله آلف، يدرون ما للبيان من شرف، وما للشعر من قدر، وأما من يستوي عنده الفصاحة والفهاهة، والبلاغة واللَّكَن، والنطق والبَكََم، فلا يقدر الشعر قدره، ولا يعرف للبيان سحره؟
* * *
ما كان على الدكتور الغذامي لو حدثنا عن ذم التكسب بالشعر، أو ذم الكذب، فسيجد من يؤازره ويناصره، وأما ليُّ أعناق الكلام لتتجه غير وجهتها، وتسير في غير طريقها، وتقصد إلى غير مرادها، للتوصل بها إلى ذم ثقافتنا كلها، وشعرنا كله، والقول: إن حياتنا أفسدها الشعر، والشعر أفسده المديح - فهذا ما لا يوافقه عليه غيور على الحقيقة أن يُطمَس وجهها، والعلم أن يرغم أنفه!
وأما من يستشهد بحديث حثو التراب في وجوه المدّاحين على ذم المدح كله فهو من الاستشهاد بالشيء في غير موضعه، كيف وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمدح أصحابه في وجوههم، ويثني عليهم، ويذكر مناقبهم؟ وإنما المدح المذموم المدح بالكذب، أو مدح من يُبطره المديح ويطغيه. ويعرف المتخصصون في التربية أثر المدح في بناء مكارم الأخلاق، ومساندة العاملين، ومكافأة المحسنين.
والإنسان يحب الذكر الحسن، ويكره الذكر القبيح، وقد سأل نبي الله إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وامتن على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رفع ذِكْره، وعلى الأنبياء جميعًا بأنهم يُذكرون بالتوقير والتعظيم، وبالصلاة والتسليم.