ومنْ هذا البابِ الأمرُ بالتوسطِ بينَ الإسرافِ والبُخلِ؛ لأنَّ الأولَ يُؤدي إلى التَّنَعُّم والترفِ الذي هو علُّةُ التِّلَف!؛ والثانِي يُكسِبُ الخُشُونَةَ وجَفاءَ الأخلاقِ وغِلَظَ الطباع!.
ولذا كانَ الإسلامُ الدينَ الوسطَ الذي جمعَ مَحاسِنَ المدنِيَّةِ إلى مَحاسِنِ البدَاوَةِ!؛ وأخذَ من كلٍّ مِنهما أحسَنَ ما فيها؛ كما نَبذَ مساوئَ كلٍّ مِنْهما، والمُجْتَمَعُ المدنيُّ التي أُنْشئتْ فيه دَوْلةُ الإسلامِ الأولى كانَ مُجتمعاً مدنِيّاً لا بَدَويّاً كما يَظنُّهُ كثيرون!؛ ومِنْ الكُتُبِ في الباب: (مَنْشورُ الصوابُ في الردِّ على من زَعَمَ أنّ الصحابَةَ من الأعرابِ)!.
كذلك تَرْبِيَةُ الأفرادِ وتَربِيَةُ الأُمَم لا تكونَ بالرخاءِ وحده؛ ولا بالشدائدِ وحدها!، بل بِهِما معاً، وكمْ مِنْ عطِيَّةٍ في بَلِيَّةٍ!؛ وكمْ من مِنْحَةٍ في مِحْنَةٍ!.
ومِنَ المُتَرْجَمِ عنْ شِعْرِ بعضِ أدباءِ الأورُوبيينَ قولُ القائل:
إنّ النوَائِبَ حَيَّةٌ رَقْطاءُ فِي أَنْيابِها السّمُّ الزُّعافُ السارِي
لكِنَّ في فِيها جَواهِرَ أُخْفِيَتْ تَزْهُو على التِّيجَانِ يَوْمَ فَخارِ
وقرأتُ في بَعْضِ الكتُبِ أن عُلَماءَ الألمانِ كانوا يُقُولُونَ قبل وُقوعِ الحربِ العالَمٍيَّةِ: إنّ الحروبَ سبَبٌ لإيقاظِ الأُمَمِ وإحياءِ الشعوبِ؛ والأُمَّةُ التي لا عَدُوَّ لها تَنامُ عنْ مَعايِبِها وتَغْفُلُ عن مَثالِبِها؛ وتَقْضي عليها حَياةُ اللهْوِ والترف!.
إن كلَّ شيءٍ في هذه الحياةِ يَجري وَفْقَ نظامٍ لا يَتَغيَّرُ ولا يَتَبَدَّلُ؛ شأنُهُ في ذلك شأنُ المُعادَلَةِ الكِيمْيائِيَّةِ تترَكَّبُ مِنْ نِسَبٍ مُعَيَّنَةٍ ثابِتَة لا تَقبَلُ التغيير؛ وإلا كانتْ النتيجَةُ مُخْتلفَةً تماماً، {إَنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
وسنّةُ التدافُعِ بينَ أمَمِ البشَرِ (بين الحقّ والباطل) في هذه الحياةِ سنةٌ كونِيَّةٌ قدريِّةٌ لا مَفَرَّ مِنْها؛ وافْتِراضُ عالَمٍ مِنْ البَشَرِ خالٍ عن ذلكَ كافْتِراضِ أُمَمٍ مِنَ النمْلِ تَعِيشُ بلا حَربٍ ولا قِتال!.
ومِنَ المُقرَّرِ في عِلمِ الاجْتِماعِ أن الكشْفَ عن النوامِيسِ والقوانينِ التي تَحْكُمُ سَيْرَ الحياةِ الاجْتِماعِيَّةِ لا بَدَّ فيه من التجرُّدِ عَنِ النوازِعِ النفْسِيَّةِ والمُيُولاتِ الشَّخْصيَّةِ؛ إذ المَطْلُوبُ مَعرفةُ النوامِيسِ على ما هيَ عليهِ في نَفْسِ الأمرِ بَعيدَةً عن أي تَأثيرٍ قلّ أو كَثُرَ؛ والصراعُ واحدٌ من هذه النوامِيس، ولذا رفضَ العُلَماءُ والباحِثونَ ما كانَ على غِرارِ (المدينَةِ الفاضِلَةِ) للفارابِيّ؛ لأنها ضَرّبٌ من الخَيالِ ولا مَكانَ لها من الحَقيقةِ.
والصراعُ بين الحقِّ (الإسلام) والباطل (كلُّ ما سِوَى الإسلام) جارٍ وفقَ هذه السننِ الكونِيّةِ أيضاً؛ والذين يُحاوِلُونَ تَجريدَ دَعْوةِ الحقّ عن قوةٍ تَحْميهِ وتُؤيدُهُ؛ وتَحفظُ له مَكانَتَهُ وسُلطانَهُ يَنْحَرِفونَ به عن هذه الجادّةِ، ويضعونَهُ في صدامٍ مُباشرٍ مع سُنَنِ الله في الكونِ والحياةِ يتعطلُ بِها سَيْرُهُ ويَتَعَوَّقُ تقدُّمُهُ!؛ كالقاطِرَةِ حينَ تخرجُ عن سكةِ الحديد!!.
وبالله التوفيق.
قال أبو سهل: لله درك أبا الوليد؛ ما أسمى بيانك معنى ومبنى!