- وهل يُمْكِنُ أن يكونَ في الأُمتَينِ أمةٌ مَقهورةٌ مظلومةٌ يُنْتَقَصُ من أَطْرافِها الشيءُ بعدَ الشيءِ؛ وتُنْتزَعُ منها حُقُوقُها المادِّيَّةُ والمَعْنَويةُ؛ ثم تَطالَبُ بعدَ هذا كلِّهِ بِأنْ تَرْضى عن الظالِمِ وأنْ تُقاسِمَهُ الأرضَ والمالَ وحتى العِرْض؟!!.

بَناءُ الكَونِ والخلْقِ على النَّقصِ إلا ما شاءَ الله؛ والكمالُ لله وحده، وقد اقْتَضَتِ الحِكمَةُ أن تَكونَ الدنيا دارَ النصَبِ والتعبِ؛ بِحَيثُ لا يُنالُ منها شيءٌ مع رَاحَةِ الجسَد، حتى ما يَظُنُّهُ الناسُ بادِيَ الرأْيِ من الراحَةِ فَهُوَ على خِلافِ ما يَظنونَ عَندَ قليلِ التفَكُّرِ والتأَمُّل!؛ وطَلَبُ غَيرِ هذا مِن الدنيا هو طََلَبُ عالمٍ آخَرَ سِوى الذي نَعيشُ فيه!.

ثمَّ إن النفعَ والضررَ في هذه الحياةِ قلَّ ما يَنْفصلُ أحدُهما عنِ الآخر؛ ولذا اتفقتْ كلِمَةُ العُقلاءِ على أنَّ الحُكْمَ للراجحِ مِنْهما، فيَيُحْتَمَلُ الضررُ الأقلُّ تَحْصيلاً للغالِبِ من النفع؛ ويُدْفعُ الضررُ الأغْلبُ وإن فاتَ معه بعضُ المنافع، وإنما مثلُ ذلك كالشمسِ؛ فإن ما فيها من عِظيمِ المَنْفعَةِ للمَخْلوقاتِ بِضَوئها وحرارَتِها يَجْعلُ الضررَ الحاصِلَ مِنها أحياناً - كَكَوْنِها سبباً في إحياءِ بَعضِ الجراثيمِ مثلا؛ أو لإتلافِ شيءٍ من المحاصيل؛ أو الإصابَةِ بالحمّى؛ وغيرِ ذلك – عدماً أو كالعَدم.

هكذا سُنةُ التدافعِ؛ أو ما نَسْتَعِيرُهُ فِي هذا المَوْضِعِ للدلالَةِ عَلَى هذا المعْنَى مِمّا يُسَمّى بالصراعِ لأجْلِ البقاء!؛ فإن حكمةَ الله عز وجلّ قد اقتضتْ بقاءَ الحياةِ على هذه البسيطَةِ إلى ما شاءَ ٍسُبْحانه؛ يذهبُ جيلٌ ويَخْلفُهُ آخرُ!؛ وتذهبُ أمةٌ لِتَحلَّ مَحَلها أُخرى، ولولاَ ذلكَ لصارَ مَوضعَ القدَمِ ألفُ قدم!؛ وأصبَحتْ الحياةُ على وَجْهِ الأرضِ جحيماً لا يُطاقُ!.

جواهرٌ في فَمِ حَيَّةٍ!!:

والذي يُوصِلُ إلى المَطْلوبِ أن تَعلمَ أنّ الإنسانَ مركبٌ من جسدٍ وروح، فهو يَجْمَعُ بينَ الكثافَةِ في الأولِ واللطافَةِ في الثانِي، وتَبِعَ هذا التركيبَ من المادتينِ تَفاوتٌ بين الناسِ في الصفاتِ والطبائع!، والكثافَةُ يُناسِبُها الشدةُ والغلظةُ والغضبُ ونحو ذلك من الصفات؛ والأخرى يُناسِبُها الرقةُ والرحمةُ والحُلُمُ ونَحْوها!؛ وما غلبَ من المادتينِ لِتَمَكُّنِ تلكَ الطباعِ منها صارَتْ الثانِيةُ تَبَعا لها، والناس بعد ذلك مُتفاوِتُونَ في المراتب.

والاعْتِدَالُ هو الوَسَطُ من ذلك؛ بِحَيثُ تَجْتَمِعُ الصفاتُ في الإنسانِ على وجهٍ يَحْصلُ معَهُ التوازنُ فلا يَطْغَى جانِبٌ على آخر، والشرعُ جاءَ مُطابِقاً لهذا!؛ فتَراهُ يَنْهى عن الجزعِ والسَخَطِ عِندَ المُصيبَةِ؛ ويأذنُ في دَمعِ العينِ وحُزْنِ القلب!، ويأمُرُ بالإكثارِ من الذكرِ عندَ القتالِ؛ لأنّ الأولَ سببُ الرقَّةِ؛ ومُخالَطَةَ السلاحِ سببُ القسوة!، ومِنْ أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: الضَّحُوك القتّال!؛ ونبيُّ الرحمَةِ ونبيُّ المَلْحمة!؛ وفي التنْزيلِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وكان عليه الصلاةُ والسلامُ أَرْحَمَ خلْقِ الله بِعبادِ الله؛ ومِنْ وَصاياهُ: لا تَغْضَبْ؛ ومَعَ ذلك كانَ شديدَ الغَضَبِ إذا انْتُهِكَتْ مَحارِمُ الله!.

وهذا جارٍ في أعْمالِ الناسِ وحَياتِهمْ وأمثالِهم: فالطبيبُ والمُعلّمُ والتاجِرُ وغَيرهم يَبْنونَ مُعامَلاتِهم على اللينِ في مَوضِعِ اللينِ والحَزمِ في مَوضِع الحزم!؛ ومن الأمثال: لا تَكُنْ ليّناً فَتُعْصر ولا صلبا فَتُكْسَر!، وفي قواعدِ السياسَةِ: عِمَادُ المُلْكِ حَزْمٌ في لِين!.

وخُذْ مِثالاً من قواعِدِ الطبِّ وتَجارِبِ الحُكَماء: فإهمالُ مُعالَجَةِ ما يَقعُ للبَدَنِ من الأَمْراضِ يُعَرِّضُهُ للخَطَرِ ويَجْعَلُهُ ضَحيَّةً وفَريسَةً لها!، وعَكْسُ ذلكَ: المُبالَغَةُ في مُدَاوَاةِ كلِّ ما يُصيبُهُ من الأعراضِ - وإن كانَ الجِسْمُ قادِراً على دَفْعها والتخَلُّصِ مِنها - تُضْعِفُ مَناعَتَهُ وتُبيحُ ساحَتَهُ لِيَرْتَعَ فيها كلُّ مرضٍ وإن ضَعُفَ!، والتوسُّطُ هو المَطْلُوبُ؛ وفي قواعِدِ الشرعِ على هذا المِنْوَالِ ما لا حَصْرَ له.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015