ولِمَ نَذهبُ بعيداً والله تعالى يَقُولُ: إلاّ أُمَمٌ أمثالُكم!؛ وفي صحيحِ السنةِ قِصةُ الجَمَلِ الذي شَكى إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم أن صاحِبَهُ يُجِيعُهُ ويُدْئِبُهُ في العملِ!، وقصةُ البَقرةِ التي رَكِبَها صاحِبُها والتَفَتَتْ إليه وقالتْ: ما خِلِقْتُ لهذا!، وقصةُ الذئبِ الذي أخذَ شاةً من الراعِي وولّى هارباً؛ فلمّا لحِقَهُ الراعِي التَفتَ إليه الذئبُ وأقْعَى على رِجلَيْهِ وأنْكرَ على الراعِي طَلَبَه الشاةَ وهي رِزْقٌ ساقَهُ الله إليه!.
وفي القُرْآنِ الكَريمِ قِصَّةُ سُليمانَ عليه السلامُ لما حُشَرَ له جُنُودُهُ من الإنسِ والجنّ والطير؛ حتى أتَوْا على وادِ النملِ؛ فقالتْ نَمْلَةٌ منهن: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
ولَيْسَتِ القِصَّةُ من نَسْجِ كاتِبٍ أو وَحْيِ خَيالٍ؛ بل هيَ قَوْلُ الخالِقِ سُبْحانَهُ وقولهُ وخَبَرُهُ حقٌّ وصِدْق، وما دامَتْ الهِدَايَةُ هدايَةَ الله (أعْطى كلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)؛ والخَلقُ خَلْقَ الله؛ فذلك عَظيمٌ لَعَظَمَةِ خالِقِهِ وهادِيهِ وما أَوْدَعَ فيه مِنَ الآياتِ وأَلْهَمَهُ مِنَ العِبَر، ولو أنَّ القصةَ كانَتْ بِقَلَمِ كاتبٍ من الكُتابِ في الأُمم الغَرْبِيّةِ لَعُدّتْ سَبْقاً في بابِها؛ ولَفْتَةً إنسانِيَّةً كريمَةً يستحقٌّ عليها الكاتِبُ التشْجِيعَ والتكريمَ!؛ ولَحُسِبَتْ مَفْخَرةً يَتَشدَّق بها دُعاةُ الحُقُوقِ هناك!.
ومُشْكِلَةُ الإنسانِ أنه كثيراً ما يُحاكِمُ الأشياءَ إلى فَهْمِهِ وتَصوُّره؛ ورُبما إلى إلْفِهِ وعادَتِه!؛ مع مَا هو عليهِ ويَعْتَريهِ من نَقْصٍ وَجَهالَةٍ؛ حتى يظنَّ العظيمَ حقيراً والحقيرَ عظيماً!.
البعوضُ والقاذفات!.
وبالأمسِ لما نزلَ القرآنُ غضاً طريّاً وضَربَ للناسِ الأمثالَ بما كانوا يُحَقِّرونَهُ من المخلوقاتِ تعرضَ له الطاعِنُونَ بالسخْرِيَةِ والاسْتِهْزاء!؛ لأن الطاعِنَ قاسَ حَجْمَهُ إلى حجمِ البَعُوضَةِ!؛ وغَفِلَ عَنْ أن السرَّ في دِقَّةِ الصنْعِ وإبداعِ الصانع!!؛ وقارِنْ إن شِئْتَ بينَ الآلاتِ المَصنُوعَةِ أولَ ما صُنِعَتْ وبينَ ما وَصلتْ إليهِ مع التقدمِ التِّقْنِيِّ والصناعِيِّ؛ كالحاسُوبِ مثَلاً أو غَيرِهِ من المَصْنُوعات!؛ ولذا جاءَ الجوابُ قاطِعاً حاسِماً لا مُدَارَاةَ فيه ولا غُمُوض: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... }؛ ولأنّ المُجْتَمَعَ الإنْسانِيَّ إذ ذاكَ لم يَزَلْ حَديثَ النشْأةِ؛ شأْنُهُ شأنُ الطفْلِ الوَليد؛ يُحاكِمُ كُلَّ ما يَراهُ وما يَسْمَعُهُ إلى فَهْمِهِ وتَصَوُّرِهِ!!؛ فهلْ يَصحُّ أن يُلْتَفَتَ إلى شيءٍ من أحْكامِهِ وتَقْريراتِه؟!؛ حتى إذا تَقدّمَتْ به السنُّ والخِبْرةُ في الحياةِ وازْدَادَ عِلْماً بما سَخّرَهُ الله لهُ إذا بهِ يُزيحُ الأستارَ عن خَلْقِ البَعُوضِ وما يَنْطَوي عليه من أسرار؛ لِيُصْبِحَ جِهازُ التّوْجِيهِ الحراريِّ في البَعُوضِ والذي يُصيبُ به فَريسَتَهُ حتى في حالِكِ الظلامِ أساساً عِلْميّاً للتوجيهِ الحراريِّ في القاذفاتِ الحربِيَّة!.
ونحنُ لم نَعْقِدْ هذهِ (المُسامُرَةَ) للحديثِ عما أفادَتْ البَشَريَّةُ كُلُّها - وليسَ المُسْلِمُونَ وَحْدَهمْ فَحَسْبُ- مِنْ مَفاتيحِ الكُنُوزِ المَعْرِفيَّةِ التي دَلَّ عليها الوَحيانِ الشريفان؛ فذاك حديثٌ يَسْتَغْرقُ مُسامَراتٍ ومُسامَراتٍ؛ لكنْ من الحكمَةِ أن لا نَدَعَ شيئاً في الحياةِ يَمُرُّ مُجَازَفَةً دُونَ اعْتِبار!.
كنْزُ الحِكْمَة:
عُدْنا وإياكَ إلى قصّةِ الفَرِيقَين؛ فقلْ لي:
- ما الحامِلُ لهاتين الأُمّتينِ على خَوْضِ حرْبٍ ضروسٍ تأتي على الأَخْضَرِ واليابِس؟!.
- أتُراهُنِّ يَتَنازَعْنَ على مِياهٍ إقْليمِيَّةٍ؛ أم حُقولِ نفطٍ؛ أم حُدُودٍ مُشْتَرَكَةٍ بينَ البلَدَينِ؛ أم على السيادَةِ الدُّوَليَّةِ لكلٍّ مِنْهما؟!.
- أليسَتْ المسألَةُ فيما يَبْدُو لنا لا تَعْدوا حباتٍ من القمحِ أوْ مَسْكَناً مِنْ مساكِنِهم؟!.
- وماذا عليهنّ لو شَرّقتْ أمةٌ وغَرّبتْ أُخْرى حتى تَباعَدَتْ الديارُ ونأتِ الأقطار وعِشْنَ في أمْنٍ وسلامٍ مِنْ نَكباتِ الحروبِ ووَيلاتِها؟!.
¥