وفي جَوانِحِ كلٍّ مِنْهم عَزْمَةٌ من عَزَماتِ الدهر؛ وهِمَّةٌ من هِمَمِهِ!؛ فلا تَوانِيَ ولا تَقْصيرَ؛ ولا تَباطُؤَ ولا تأخيرَ؛ لا يَعْدُو واحدٌ طَوْرَه؛ ولا يُجاوزُ واجبَهُ ودَورَهُ!؛ فُسُبْحانَ من أعْطى كلَّ شيءٍ خلقَهُ ثم هدى.

حكايَةٌ نادِرة:

وقد ذكرْتُ بهذه القصّةِ قصةً أُخرى؛ وقعَتْ لِبَعْضِ من سَلفَ؛ وحكاها عن نَفْسِهِ، حاصِلُها أنه رأى نَمْلَةً تطُوفُ بشِقٍّ جرادَةٍ وتَحاولُ أن تُقِلَّهُ دون جدوى، فلما تَحَقَقَتِ العَجْزَ عن ذلك ذهبتْ غيرَ بعيد؛ فمكثتْ مليّا؛ ثم لم تَلْبَثْ أن عادتْ ومَعَها نَملَتان!؛ قال: فلما رأيتُ ذلك أخفيتُ الشِّقَّ عنهن، فجاءتْ وصُوَيْحِباتُها وجعلنَ يَطُفْنَ بالمكانِ يَبْحثْنَ عنه؛ ثم إنهنّ تَركْنها وذهَبْنَ!؛ قال: فأخرجتُ الشِّقَّ ووَضَعتُه حيثُ كان؛ فلم تَلْبَثْ أنْ جالَتْ حولَه قليلاً حتى ذهبتْ تَسْتَدْعِيهنَّ ثانِيَةً!؛ فلما حضرْنَ أخفَيْتُه عنهنَّ كما صنَعْتُ في الأولى، فبَحثْنَ معها في الموضعِ ثم خلّيْنَها وعُدْنَ أدْراجَهُنّ!؛ قال: فردَدْتُ الشقَّ مكانَهُ؛ فلما رأته ولّتْ إليهنّ ثالثَةً فجِئْنَ معَها؛ وصَنعتُ بالشقِّ ما صَنَعْتُهُ في الأولى والثانية، فلما لم يَجِدْنَ شَيئاً؛ اجتمَعْنَ عليها فلم يُغادِرْنَها إلا قَتِيلَةً صريعةً!.

وما دام الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ فقدْ أثبَتَتْ أبحاثٌ علميةٌ معاصَرةٌ أن قرنَ الاستِشعارِ لدى النملِ يعمَلُ عملَ (الهوائي)؛ وأنّ النملةَ يُمْكِنُها من طريقِهِ تلقي المَعْلوماتِ وإرسالُها عن بُعد!.

ولَعَلَّ هذا يُفَسرُ لك ما ذكرهُ ابنُ سينا الطَبيب في المجلد الخامس من كتاب (القانون) من أنّ النملَ إذا جُعلَ على جُحْرِها المغناطيسُ فَرَّتْ منه، وهي فائدةٌ عِلميَّةٌ نادرة!!.

وثالثَةُ الحِكاياتِ:

أنْني ذكرتُ بالقصَّةِ السابِقَةِ – والتي تدلُّ على أن الكَذِبَ صِفَةٌ مذمُومَةٌ حتى عِندَ غير البشر – تَجْرِبَةً قامَ بها بعضُ الباحثينَ؛ وهيَ أنه أخذَ نَمْلةً من النّملِ وحبَسها في مَوضِعٍ مُدَّةً من الزمن؛ وجَعَلَ يُلقي لها في كلِّ يومٍ شيئاً من فُتَاتِ القَمْحِ؛ حتَّى إذا مَرّتْ مُدَّةٌ من الزمَنِ خَلاّها؛ فجَعَلَتْ تَنْتَظِرُ ما يُلْقى إليها مِنَ القمْحِ؛ ولا تَسْعَى في تَحصيلِ الطعامِ سَعْيَ أَفْرادِ جِنْسِها من النمل!.

وشأنُ هذه النملةِ في هذا شَأنُ كلِّ ما يُرَوض!؛ تَفقِدُ مع الوَقْتِ الصفاتِ التي تَكُونُ في مَثِيلاتِها مِمَّا يَعيشُ في البِيئَةِ التي خُلِقَ فيها مِنَ الشجاعَةِ والاعْتِمادِ على النفسِ وغيرِ ذلك!.

الإنسانُ والمخْلُوقات:

هكذا الإنسانُ لا يَزالُ يتَعلّمُ من كلّ شيءٍ حولَهُ؛ فالكونُ كلُّه مُسَخّرٌ له مِنّةً من الله تعالى وتَفَضُّلا؛ حتى عُدَّ من الحِكْمَةِ ما يُنْسَجُ من الحكاياتِ على ألسنَةِ الكائناتِ الحيّةِ من حَوْلِهِ؛ بل وغَيْرِها من الكائنات!؛ فما أودِعَ مثلاً في كتابِ (كليلةَ ودِمْنَةَ) أو في غيرهِ من المنثورِ والمَنْظومِ وإن ظنّهُ كثيرٌ من الناسِ للمُتْعَةِ والتّسليَةِ فطالَما انْتُفِعَ به في قواعِدِ السياسَةِ والحِكَمَةِ العَمَليةِ في تَطبيقاتِها؛ ويُحْكى أن واضِعَ الكتابِ في الأصْلِ أرادَ به هذا المَعْنى، وهكذا ما يَنْسِبُهُ الناسُ إلى (لُقمانَ الحكيم) من القصصِ والحكاياتِ المَوْضوعَةِ على ألْسِنَةِ العَجْماوات!، وزِدْ عليْهِ ما تَعَلّمَه الناسُ من الصفاتِ الحسَنَةِ والصفاتِ المذمومةِ التي جَبَلَ الله المخْلوقاتِ عليها؛ كالشجاعةِ في الأسدِ؛ والأنفةِ والتحَمّل في الجمل؛ والصبرِ في الحمار؛ والحذرِ في الغرابِ؛ وحسنِ التدبيرِ في النملِ؛ ونحو ذلك، مما يدلُّ على أن كلّ شيءٍ في الكونِ يجريِ وَفْقَ نِظامٍ لا يَتَغيرُ ولا يتَبدل؛ وأن كل ما فيه قائمٌ على حكمَةٍ بالغَةٍ وإن قصُرَتِ العقولُ والهِمَمُ عن إِدْراكِها!.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015