(كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسون) أي: ليس الأمر كما زعموا و لا كما قالوا , إن هذا القرآن أساطير الأولين , بل هو كلام الله ووحيه و تنزيله على رسوله صلى الله عليه و سلم , و إنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّين – قال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب , حتى يعمى القلب , فيموت. و كذا قال مجاهد و قتادة , و ابن زيد , و غيرهم – الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب و الخطايا. قال النبي صلى الله عليه و سلم: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكت في قلبه نكتة , فإن هو نزع و استغفر و تاب صُقل قلبه. فإن عاد زيد فيها حتى يعلو قلبه , فهو الران الذي قال الله تعالى (كلاّ بل ران على قلوبهم مّا كانوا يكسبون) " صححه الألباني.

(كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) أي ردعا لهم و زجرا عن أقوالهم الباطلة و أعمالهم الفاسدة , أو بمعنى حق , إنهم محجوبون عن رؤية ربهم و خالقهم. قال ابن جرير: أي فلا يرونه و لا يرون شيئا من كرامته , فهم محجوبون عن رؤيته و عن كرامته. و تخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيرى الله تعالى و يرى كرامته. قال الإمام الشافعي: في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ. قال ابن كثير: و هذا الذي قاله الإمام الشافعي , رحمه الله , في غاية الحسن , و هو استدلال بمفهوم هذه الآية , كما دل عليه منطوق قوله (وجوه يومئذ ناضرة , على ربها ناظرة). و كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة , رؤية بالأبصار في عَرَصات القيامة , و في روضات الجنات الفاخرة.

(ثم إنهم لصالوا الجحيم) ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران , مصطلون بحرها معذبون بأنواع العذاب فيها.

(ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) ثم يقال لهم على وجه التقريع و التوبيخ , و التصغير و التحقير " هذا " أي العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون حتى واصلتم كفركم و إجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن تزدادوا إلا عذابا.

لما ذكر الله تعالى أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة و أضيقها , ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها و أوسعها و أفسحها , فقال تعالى:

(إن كتاب الأبرار لفي عليين) أي حقا إن كتاب أعمال هؤلاء الأبرار الذين كانوا لربهم طائعين - بأداء فرائضه و اجتناب نواهيه - في أعلى الجنة. قال القاشانيّ: أي ما كتب من صور أعمال السعداء و هيآت نفوسهم النورانية و ملكاتهم الفاضلة , في عليين. و هو مقابل للسجين , في علوه و ارتفاع درجته , و كونه ديوان أعمال أهل الخير.

(و ما أدراك ما عليون) إستفهام للتفخيم و التعظيم بشأن عليين , إذ هو في أعلى مرتبة و أسمى منزلة.

(كتاب مرقوم) أي محل شريف رقم بصور أعمالهم.

(يشهده المقربون) أي يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال , من الملائكة , و أرواح الأنبياء , و الصديقين و الشهداء , و ينوِّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى.

(إن الأبرار لفي نعيم) إن الأبرار – و هم أهل الطاعة و الصدق فيها , و هم أصحاب الكتب المودعة في عليين – لفي نعيم – و هو إسم جامع لنعيم القلب و الروح و البدن – عظيم دائم , و جنات فيها فضل عميم.

(على الأرائك) أي على السرر المزينة بالفرش الحسان.

(ينظرون) في ملكهم و ما أعطاهم الله من الخير و الفضل الذي لا ينقضي و لا يبيد , و ينظرون إلى وجه ربهم الكريم.

(تعرف في وجوههم نضر النعيم) أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم بهاء النعيم و نضارته و رونقه , فإن توالي اللذة و السرور , يكسب الوجه نورًا و حسنا و بهجة.

(يُسقون من رحيق) يسقون من خمر من الجنة , صافية لا دنس فيها و لا غش. و الرحيق: من أسماء الخمر.

(مختوم) أي: خُتم على أوانيه تكريما له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم و يصان.

(ختامه مسك) آخر هذا الشراب يفوح برائحة المسك الأذفر فهي طيبة الرائحة للغاية. قال ابن عباس: طيب الله لهم الخمر , فكان آخر شيء جعل فيها مسك , خُتم بمسك. و القصد لذة القطع بذكاء الرائحة و أرجها , على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم و الرائحة.

(و في ذلك) أي النعيم المقيم , الذي لا يعلم مقداره و حسنه إلا الله.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015