(و إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم , ينقصونهم حقهم الواجب لهم – و هو الوفاء و التمام – سواء بمكيال و ميزان ناقصين , أو بعدم ملء المكيال و الميزان , أو نحو ذلك.
فهذا سرقة لأموال الناس في الأخذ و الدفع , و لو في القليل , لأن من دَنُؤَت نفسه إلى القليل دل على فساد طويته و خبث ملكته , و أنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة.
و قد أمرنا الله تعالى بالوفاء بالكيل و الميزان فقال " و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا " , و قال " و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا تكلّف نفسا إلاّ وسعها " , و قال " و أقيموا الوزن القسط و لا تُخسروا الميزان ". و أهلك الله قوم شعيب و دمّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال و الميزان.
(ألا يظن أولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم) أما يخاف أولئك من البعث و القيام بين يديّ من يعلم السرائر و الضمائر , في يوم عظيم الهول كثير الفزع , جليل الخطب , من خسر فيه أدخل نارًا حامية؟.
(يوم يقوم النّاس لرب العالمين) يقومون حفاة عراة غُرْلاً – قلت " عبد الحي ": أي غير مختونين - , في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم , و يغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى و الحواس عنه.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " (يوم يقوم النّاس لرب العالمين) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " رواه البخاري و مسلم.
و روى الإمام أحمد عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " (يوم يقوم النّاس لرب العالمين) لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة , حتى إن العرق ليُلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم " قال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح.
و عن المقداد بن الأسود الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " إذا كان يوم القيامة أُدْنِيَت الشمس من العباد , حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين , قال: فتصهرهم الشمس , فيكونون في العرق كقدر أعمالهم , منهم من يأخذه إلى عقبيه , و منهم من يأخذه إلى ركبتيه , و منهم من يأخذه إلى حَقْوَيه , و منهم من يلجمه إلجاما " رواه مسلم.
فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر , و إلا فلو آمنوا به , و عرفوا أنهم يقومون بين يدي الله , يحاسبهم على القليل و الكثير , لأقلعوا عن ذلك و تابوا منه.
(كلاّ) ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب و ضعف اعتقادهم به.
(إنّ كتاب الفُجّار) و هذا شامل لكل فاجر من أنواع الكفرة و المنافقين و الفاسقين , و الكتاب ما كتب فيه من عملهم السيء و أحصي عليهم.
(لفي سجّين) موضع في أسفل الخلق به أرواح الكافرين و الظالمين و كتب أعمالهم. و هو سجن مقيم و عذاب أليم. قال القاشانيّ: " لفي سجّين " في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة و دركاتها. و هو ديوان أعمال أهل الشرّ.
(و ما أدراك ما سجين) أي و ما أعلمك يا رسولنا ما سجين. و الإستفهام للتهويل و تفخيم من شأن سجين.
(كتاب مرقوم) أي مسطور بيّن الكتابة , مذكور فيه أعمالهم الخبيثة. و هو كتاب مفروغ منه , لا يزاد فيه أحد و لا ينقص منه أحد.
(ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين) أي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين بالله و آياته و لقائه , المكذبين بيوم الجزاء و الحساب. و فيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف , لأن إصرارهم على التعدي و الإجترام يدل على عدم الظن بالبعث.
(و ما يكذب به إلا كل معتد أثيم) و ما يكذب بيوم الجزاء و الحساب إلا كل معتد ظالم متجاوز للحد بالإفراط في أفعاله بالبغي و العدوان , مبالغ في ارتكاب أفانين الإثم و أنواع المعاصي.
(إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) هذا بيان لذلك المعتدي الأثيم و هو أنه إذا قُرئت عليه آيات الله تذكيراً له و تعليمًا ردًّها بقوله أساطير الأولين أي هذه الحكايات من ترهات المتقدمين و أخبار الأمم الغابرين , ليس من عند الله تكبُّرا و عنادًا.
¥