كما مارس حسان نفسه النقد على الشعراء، مما يدل على رسوخ قدمه في فن الشعر، وعمق نظرته الأدبية، فقد أورد ابن سلام قصة مشهورة مفادها أن حسان بن ثابت سئل: من أشعر الناس؟ فقال: أرجلاً أم حياً؟ قيل: بل حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل، وأشعر هذيل أبو ذؤيب.

هل ضعف شعر حسان؟

امتدادا لقضية ضعف الشعر في المرحلة الإسلامية وخاصة في المرحلة النبوية، فقد كان شعر حسان بن ثابت في صميم الشعر الموسوم بالضعف اعتبارا لكونه النموذج الأول في الإسلام الذي يأخذ مكانته الرسمية فيه بمباركة النبي e، وأقدم أثر نقدي في القضية قول الأصمعي: "الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير يضعف. لأن هذا حسان كان من فحول الشعراء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره". ويقول الثعالبي: "فلما أدرك –يعني حسان- الإسلام وتبدل الشيطان تراجع شعره".

وما دامت القضية امتدادا لإشكالية ضعف الشعر في الإسلام، فإننا بالطبع سنجد موقفا يقر وآخر ينفي.

ونحن إذ نقف على قبر حسان لنسائله عن مدى صحة قول الأصمعي فيه، يجيبنا جواب الحكيم ليقر بذلك بل ليبين سببه، وذلك لما قال له السائل: لان شعرُك وهرِم يا أبا الحسام، فقال للسائل: يا ابن أخي؛ إن الإسلام يحجز عن الكذب. يعني أن الإجادة في الشعر هو الإفراط في الذي يقوله، وهو كذب يمنع الإسلام منه، فلا يجيء الشعر جيداً.

ولا ننسى أن حسان قد أسس نظرية الصدق في الشعر لما قال:

وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا

يقول التنيسي في المنصِف: "إنّ الصدق غير ملتمس من الشاعر وإنما المراد منه حسن القول في المبالغة في الوصف والشعر وفي فنون الباطل واللهو أمكن منه فنون الصدق والحق، دليل ذلك شعر حسان في آل جفنة في الجاهلية فإنه كان كثير العيون والفصول، قليل الحشو والفضول، فلما صار إلى الإِسلام طلب طريق الخالق واستعمال اللفظ الصادق فقل تناهيه وضعفت معانيه فهذه بلغة كافية من هذا المثال".

والمعروف عن ابن خلدون رفضه ضعف الشعر في الإسلام، ممثلا بشعر حسان وغيره، فهاهو يقول في مقدمته: " .. كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير .. في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة .. ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.

والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.

ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا .. ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين، ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب .. "

وثمت شيء آخر قد يكون سببا للقول بضعف شعر عند حسان –عند من يقول بذلك- ألا وهو الموضوعات التي يتناولها شعره الإسلامي من ربانيات ونبويات. ويكاد ابن خلدون حين يعترف بهذا يسقط في هوة التناقض، إذ المعروف أن شعر حسان الإسلامي غالبه في هذا المنحى، إلا أنه يتدارك الموقف، بإرجاعه قوة الشعر في هذه الأغراض إلى الفحولة التي لا شك يُكرم بوسامها حسان بن ثابت.

يقول ابن خلدون: " .. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك."

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015