مرَّ علي يوم الخميس كأصعب يوم يمر على مكلوم أو محبوس، ولولا ما بقي في النفس من شجاعة وقوة لمرضت ذلك اليوم، إي والله، حتى إنني حاولت أن أطلب رقم شيخنا وخطيبنا للاعتذار والتنحي عن هذا المنصب، فلم أستطع لذلك سبيلا، فلم يكن الجوال في ذلك الوقت، ولا النداء الآلي، فليس إلا الهاتف الثابت وبدون كاشف للرقم، وأهل الدعوة والمشايخ في مكة والمشاعر أغلب وقتهم في الميدان وبعيدين عن مقر عملهم.
وجاء اليوم الموعود، جاء يوم الجمعة، لم أستطع أن أنام جيداً تلك الليلة، ولا بعد صلاة الفجر، أصابني خوف شديد لا أدري كيف أصابني، وكانت قصص من أغمي عليهم نصب عيني طوال الوقت، حتى بدأت أتذكر حالي وقد أغمي علي، ماذا سيحصل لي بعد ذلك، حتى تمنيت أنني ما أخبرت أحداً بأنني سوف أتولى الخطابة في جامع الحي.
ذهبت إلى الجامع الساعة الحادية عشرة ومعي مشلحي وخطبتي بيميني، وزاد خوفي لما رأيت الناس وهم يدخلون الجامع جماعات وأفرادا، والله، لقد وصل بي الحال من الخوف والهلع، أن صممت وعزمت على أن أرمي بالمشلح والخطبة على أي أحد يمر بي وأعرفه، فأخذت فعلاً أبحث عن أحد أعرفه يمر بي، فلم أجد، وبينا أنا على تلك الحال إذ بمكبرات الصوت قد أشعلت استعداداً لدخول الخطيب، رحمني الله تعالى تلك الساعة لما علم من حالي، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أفتح باب المنبر وأدخل على الناس دون أن أنظر إليهم، لأني اغتنمت شجاعة بسيطة مرت بي، وأخذت بقلبي ودفعتي إلى أن أقوم بهذا العمل، وأن أفعل ذلك ولو حصل ما حصل.
دخلت وسلمت على الناس، ولا أخفيكم أنني عملت لهذا الدخول عدة تجارب في المسجد بعد كل فريضة، كيف أدخل؟، وكيف أسلم على الناس؟، وكيف أجلس؟، وكيف أفتح المكبر؟، وكيف .. وكيف؟!!، حتى حفظت ذلك وفعلته دون أختيار عندما دخلت الجامع وسلمت على الناس وصعدت المنبر، كأنني تبرمجت على ذلك.
ما أسرع ذلك الأذان لتلك الجمعة، انتهى الأذان فقمت مسرعاً بعد أن سكن صوت الناس قليلاً، وقد أخرجت الخطبة والتي ما تركت فيها من شاردة وواردة إلا وكتبتها، حتى الدعاء كتبته.
بدأت بقراءة الخطبة، وأصاب صوتي نوع من الضعف، ولكن سرعان ما اختفى - بفضل الله وبرحمته -، نسيت الناس وانشغلت في ضبط الخطبة وألفاظها ومعانيها، أحسست أن الخوف قد زال عني تماماً.
انتهت الخطبة الأولى في راحة وطمأنينة. فلم يغمَ علي، ولم يحصل لي أي شيء، جلست بين الخطبتين، وفرق كبير بين جلوسي أول ما دخلت، وبين جلوسي هذا.
خطبت الخطبة الثانية، ثم نزلت وصليت بالناس، فلما انتهت الصلاة شعرت براحة نفسية عجيبة، خرجت من المسجد، وكل من قابلت ممن أعرف ومن لا أعرف، يقول لي - كعادة الناس جزاهم الله خيراً تشجيعاً للخطيب -: بارك الله فيك خطبة جيدة.
فرحة فرحاً عظيماً بذلك، فلما عدت إلى البيت، جلست مع نفسي، وقراءة الخطبة على نفسي مرة ثانية أتأمل الإبداع فيها. فقلت: أنا الذي قبل ساعة كدت أموت من الخوف، عجيب أمري!!، ها أنا ذا قد صعدت المنبر وخطبت الناس، ونفعتهم، وعدت إلى منزلي ولم يحصل لي أي شيء.
من ذلك الوقت، تعلمت أن الخوف هو أكبر عائق للإنسان لوصوله إلى التمام، وأن الإنسان يجب عليه أن يقدم كل ما لديه، من علم، وخير، ونفع للناس، وأن يصل إلى أعلى طموحاته، ولا يخشى الخوف، ولا المرجف في النصيحة، فها أنا منذ تلك اللحظة وحتى كتاية هذه الحروف - وقد مضى عليها عشرون سنة - أخطب في الناس و لا أعرف الخوف، والحمد لله رب العالمين.
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ ... فَفِي صَالِحِ الْأَخْلَاقِ نَفْسَكَ فَاجْعَلِ. (1)
______
(1) أخرج البيهقي في شعب الإيمان (11/ 47) بسنده عن أَبَي الْعَبَّاسِ السَّيَّارِيّ، قال: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي الْمُوَجِّهِ، فَقَالَ: إِنِّي خَارِجٌ مِنْ مَرْوَ، فَلَوْ وَعَظْتَنِي؟ فَقَالَ أَبُو الْمُوَجَّهِ:
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ ... فَفِي صَالِحِ الْأَخْلَاقِ نَفْسَكَ فَاجْعَلِ
ـ[ابراهيم بن محمد الحقيل]ــــــــ[26 - صلى الله عليه وسلمug-2010, صباحاً 05:23]ـ
حياك الله تعالى أبا مالك المصري وحيا أهل النيل، وجزاك خيرا على مرورك وتعليقك ..
¥