كنا نسكن عام 1400هـ في شارع الخزان في الرياض قريبًا من مبنى التلفزيون، وسمعت من بعض من ألعب معهم في الحارة أنهم يسجّلون حلقات لبرنامج من برامج الأطفال مشهورٍ في تلك الأيام، وأنهم قد حددوا موعدًا –بعد الظهر- لحضور التسجيل في يوم معلوم يحضره من شاء.
كانت سني بين الحادية عشرة والثانية عشرة، ففرحت كثيرًا أن أرى صورتي قد خرجت على الشاشة (في الكبار اليوم من يفرح كثيرًا لهذا!).
ذهبنا أربعة أو خمسة من الأولاد بثياب متسخة لكثرة ما لعبنا بالكرة وتمرغّنا في الإسفلت، ولم أكن أنا وأحد الرفقة نلبس الأحذية، مشينا حفاةً حتى دخلنا المبنى، وتوجهنا إلى أستديو التسجيل، وقصدنا آخر الكراسي؛ لأن حالتنا ما كانت تسرّ ..
ورأيت ماما .... مذيعة البرنامج شوهاء عابسة تنهر هذا وتصيح في وجه ذاك، قد أجلست ولدها على كنب مريح بعيدًا عنا يقدم له العصير ونحن رصصنا رصّاً كالغنم، ثم حضر الأستاذ صالح .... مخرج البرنامج فاقترب منا وتأمَّلنا في حزم كأنه ضابط يستعرض كتيبة من الجند، فوقعت عينه على قدمي زميلي، فصرخ في وجهه وقال له: تأتي إلى البرنامج متسخ الثياب حافي القدمين يا قذر، ألا تعلم أن كبار المسؤولين يشاهدون هذا البرنامج، ألا تعلم أن الملك يشاهده .. وتوجّه إليه وطرده شرّ طردة على مرأى منّا ومسمع، فجمدتُ في مكاني ومرّت عليّ لحظات كأنها الدهر كله (هذافي برنامج للأطفال .. ) إلا أن عينيه تخطتني لحسن الحظّ بعد أن وقفتْ عليّ قليلاً ..
ثم إنهم أخبرونا أن هناك أنوارًا مواجهة لنا إذا أضاءت فعلينا أن نصفّق، وكنت أحسب أن الأطفال يصفقون فرحًا من عند أنفسهم .. توارى المخرج خلف الكاميرات والأسلاك، وأخرجت المذيعة من حقيبتها بعض الأدوات وأصلحت من شأن نفسها على عجل وبدأ التصوير، فابتسمت الماما ابتسامة كاد ينشق لها فمها، و المخرج خلف الكواليس يهمس ويوجّه ويشير بيديه في عصبية شديدة، والطفل يخرج للميكرفون في يد المذيعة ينشد أو يجيب عن سؤال، فتبتسم في وجهه، وتنظر إليه في دفء وحنوّ .. فلما أوقفوا البرنامج للراحة عبست المذيعة –والله- وتغيّرت سحنتها لا أدري كيف، وأنا من هذا كله في خوفٍ من أن يقبض عليّ بلا نعل، ودهشةٍ من هذا الذي يحدث إلى أن انتهى البرنامج، فخرجنا مسرعين وصاحبنا المطرود ينتظرنا عند الباب في خِزي وغَيرة، وأحسست وأنا أعود إلى البيت بشيءٍ يتكسّر من نفسي ويهوي في مجاهلها فأكاد أغيب، لكن ما كنت أتبين ما هو في تلك السن المبكرة (قرأت فيما بعد لطاغور: ثمة قَفْرٌ فسيح اسمه القلب، في أعماقه أضعتُ سبيلي).
كان ذلك كله: مقابل أن أرى صورتي لثوانٍ معدودات على شاشة التلفزيون، وقد التصقتُ بالكرسي وتجمّعتُ خوف أن أُرى .. فيا لبهجة الطفولة ..
ـ[بوشجاع عبدالله]ــــــــ[23 - Jul-2010, مساء 02:02]ـ
فيا لبهجة الطفولة ..
تجربة رائعة:::
بارك الله فيكم
المزيد المزيد
ـ[السليماني]ــــــــ[23 - Jul-2010, مساء 10:18]ـ
ليت الكاتب -وفقه الله - يتحفنا بتجاربه عن الوفاء
الذي نسيه أكثر أهل هذا الزمان
فتجد الرجل يصاحب أخاً له بضع سنين ثم يهجره بدون سبب يذكر!!!
ورحم الله سعيد بن العاص الذي قال عند موته
(إن فقد إخواني وجهي فلا يفقدوا معروفي)
ـ[عبدالله الهدلق]ــــــــ[24 - Jul-2010, مساء 09:35]ـ
ليت الكاتب -وفقه الله - يتحفنا بتجاربه عن الوفاء
الذي نسيه أكثر أهل هذا الزمان
أما الوفاء فلا أكاد أتبيّنه في نفوس أكثر من لقيت , فإن كان عندك أيها الفاضل من خَبره فهاتِ حدّثنا ..
ـ[عدنان البخاري]ــــــــ[24 - Jul-2010, مساء 09:57]ـ
/// لعلَّ أخانا يقصد تجارب في عدم الوفاء، فإن فالتمثيل به أكثر من تجارب الوفاء!
ـ[عبدالله الهدلق]ــــــــ[25 - Jul-2010, صباحاً 01:05]ـ
/// لعلَّ أخانا يقصد تجارب في عدم الوفاء، فإن فالتمثيل به أكثر من تجارب الوفاء!
نعم؛ لكني ذممتُ الناس حتى خُيّل إليّ أني لستُ منهم .. ولقد كان يبلغ من نفسي تنكّر اللئيم مبلغاً آرق له الليالي , ثم سلوتُ عن أكثر هذا فما عدتُ ألتفتُ إليه؛ وذلك لضعف أثر الشيء على نفسك إذا توارد وارده عليها .. ماكان أكثر ما يتمثّل الشيخ الكبير سيد علي المرصفي بقول الحنفي يحيى بن طالب:
يزهّدني في كل خيرٍ فعلتُه ... إلى الناس مالاقَيتُ من قِلّة الشّكر
هذا مع ماكان المرصفيّ يتبذّخ به من البَصَرِ بأشعار العرب , فما تراه إذ أكثر التمثّل بهذا البيت .. فهذا هذا.
ووالله لاآمن إن عاد أخي الشيخ عدنان إلى حيث يثعب الجُرح؛ أن أُحبّرها له جاحظيّةً بعد أن قرأها حيّانيّة .. فذاك ذاك.
ـ[عدنان البخاري]ــــــــ[25 - Jul-2010, صباحاً 01:15]ـ
/// لا بأس .. يا شيخ عبدالله (ابتسامة)
/// وخير علاج كما يقول عامَّة أهل مكَّة: انْسَ .. وقديما قال الأول:
واليأس إحدى الرَّاحتين! ولن ترى /// /// تعبًا كفعل الخائب المكدود
/// وهذه قد سبقك (أوسبقنا .. ! لا أدري لأن الجرحان مثعوبان كما يبدو!) =إليها ابن المرزبان.
/// أتدري؟! (أهمسها في أذنك) .. لا أحب مجرد التفكير في مثل هذا البويب؛ فإنه يفجِّر الجرح المثعوب .. فضلاً عنأن أتحدَّث عنه!
¥