ـ[ابن مفلح]ــــــــ[12 - Jul-2010, صباحاً 07:28]ـ
لقد كثر اختلاف الناس في شأن العقل؛ في حده، وفي محله، وفي غيرهما، حتى قيل: إن فيه ألفَ قول ([1] ( http://majles.alukah.net/showthread.php?p=386277#_ftn1) )، ولم لا؛ وقد تكلم فيه أصناف الخلق من الفلاسفة، والأطباء، والمتكلمين، والفقهاء؛ كلٌّ بما يليق بصناعته.
فالفلاسفة شأنهم الكلام في الموجودات كلها، ومعرفة حقيقتها، والعقل من أشرف الموجودات؛ فتكلموا عنه.
والأطباء شأنهم الخوض فيما يُصلح الأبدان، والعقل سلطان البدن، ومرضُه من أشد الأمراض؛ فتكلموا عنه.
والمتكلمون هم أهل النظر، والنظر أبدًا يتقدمه العقل، فافتقروا في معالجة مقصودهم إلى الكلام على ما لا قوام له إلا به -وهو العقل-؛ فتكلموا عنه.
والمتشرعة من فقهاء وأصوليين ومَن إليهما تكلموا فيه من حيث إنه مناط التكليف. وكل طائفة من هذه الطوائف لها في تفسير العقل ما يليق بصناعتها ([2] ( http://majles.alukah.net/showthread.php?p=386277#_ftn2) ).
ورحمة الله على أبي حامد الغزالي حيث قال:
وكذلك إذا قيل ما حد العقل؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد؛ فإنه هوس؛ لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلًا، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه، وهو عبارة عن الهدوء، فيقال: فلان عاقل، أي: فيه هدوء.
وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم، حتى إن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلًا، فلا يقال للحَجَّاج (عاقل)، بل (داه)، ولا يقال للكافر (عاقل)، وإن كان محيطًا بجملة العلوم الطبية والهندسة، بل إما (فاضل)، وإما (داه)، وإما (كيّس).
فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود ... ([3] ( http://majles.alukah.net/showthread.php?p=386277#_ftn3) ).
والحاصل -كما قرر في الإحياء-: أن الناس اختلفوا في حدّ العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقًا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم.
والحق الكاشف للغطاء فيه؛ أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان، فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد، بل يفرد كل قسم بالكشف عنه.
فالأول: الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية.
الثاني: العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.
الثالث -وهو المقصود هنا-: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإن من حنَّكته التجارِب وهذبته المذاهب يقال: إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال فيه: غبي غمر جاهل.
الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سُمي صاحبها عاقلًا، من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة. فالأول: هو الأس والمنبع، والثاني: هو الفرع الأقرب إليه، والثالث: فرع الأول والثاني؛ إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع: هو الثمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى.
فالأولان بالطبع، والأخيران بالاكتساب ([4] ( http://majles.alukah.net/showthread.php?p=386277#_ftn4) ).
وبناءً على ذلك فلن يستريب -عاقل- في أن التجارب محنكة المجرِّبين، ومهذبة العاقلين، وبتتبعها من مظانها من الأفراد والجماعات يحصل البصر بالعواقب، والمعرفة بحقائق الأشياء، من دون اغترار بقشورها، وزخارف ظاهرها.
ولست أود أن أطيل أكثر من ذلك في فضل التجارب، ومَن كتب قبلي من الأفاضل قد أوفى على الغاية، ولكني سأدلف إلى شيء من مجرباتي -مع أني في السن دون ما أعلمكم عن نفسه أبو فهر-، ولكن لعل عقلًا يلفى لدى الشباب.
¥