ولربُّ ذكرى جَدَّدتْ حَزَنا

كم ذا أُغالِبهُ ويغلبُني

دمع إذا كفكفتهُ هَتَنا

لي ذكرياتٌ في ربوعهمُ

هنّ الحياةَ تألقاً وسنا

لكل إنسان ذكرياته وأحزانه وأشجانه ... ، كيف .. وماهي إلا فصول أيامه وحياته، إلا أن وميض الذكريات يلمع في التجارب منها، والذكريات قد تتطلب جهدا في استدعائها من بين ركام الأيام وكثكث الحياة، بينما من التجارب مايصبح من أخلاق الإنسان وطبعه، حين تخلق فيه ما يكون كسوس النفس وجبلتها، وإن كان منها ماهو غير ذلك.

وما التجارب إلا ورقة مضيئة تنفذ من خصاصة في بيت الذكريات، ولون من ألوان أيامها حلوها ومرها ... ، وما أكثر مر هذه الحياة ... ، وما أكثر بؤسها ووحشتها لولا حادي الأمل ونور الإيمان، ولن أقف هنا واعظا في ظل مدرسة هذا الواعظ الكبير، واعظ التجربة القائم على أساس مستقيم من طبع سليم و نظر صحيح.

ذلك حين يهتف العقل في ضمير الإنسان، حين تستدعي ذاكرته تلك الأيام التي تساقطت أوراقها حتى لم يبق منها إلا لواعج أحزان و حنين أوطان ... ، لتتفجر التجارب بوحيها مرشدا وواعظا ومذكرا ... ، فكما أن السعيد من اتعظ بغيره، فالعاقل من تديثت أمامه عقبة الحياة بلأواء التجارب وغبار الذكريات، أولئك هم العقلاء من الناس، بل أولئك هم الحكماء في الناس.

والتجربة .. وإن كانت تكتسي أحزانا وأشجانا في غالب أمرها، إلا أن تباشيرها حين تهتف في روعك بأن ما أخذته من أيامك لأيامك، وما كدرته من حياتك لحياتك، وأن ما أخذت به منك بحزنها أو حنينها ... ماهو إلا شجرة مباركة تخترف منها على مر السنين، لتكون حياتك حياة الحكماء، وتجارتك تجارة العقلاء، تجارة أيام بأيام وحياة بحياة.

ولكن ولكن .. من منا حنكته الأيام وعلمته التجارب فاستوسق له أمره، واستوفز في غده بما كان له في أمسه، وتبين مواضع رشده بنفسه من نفسه، وتملى ذاكرته وتجاربة من حياته، مستنطقا صمتها مستمليا صفحاتها، اللهم إنا قد علمنا أن الكريم لا تعلمه التجارب ... ، وقليلا ما ينظر اللئيم والأحمق إلى تجارب الآخرين إذ لا تجارب له، وأنى يكون .. وليس له إلا مايتبين به مواطن اللذة واللذة ليس إلا.

ولعمري انه من أنعم الناس عيشا، وأهنئهم حياة، وأبعدهم عن كدرها وأوصابها إذ لامعالي له إلا لذة الساعة ومتعة اللحظة، فكما أنه ليس له من غد أو بعد غد، فكذلك لا أمس ولا قبل أمس، وإنما لذة اليوم والساعة واللحظة، فهو مستريح لا مستراح منه، وبليد سامج تنفر الحكمة عنه، فكما أن الشقاء مولع بالعاقل فاللئيم مستهتر باللذة ... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والتجارب حين (تعرفك بعاقبة ما تستأنف من أمرك) ـ وهذه هي التجارب/المعرفة بعواقب الأمور ـ وتشكل لديك بصيرة عن عاقبة مسار معين في الحياة، فهل يلزم أن تكون كما هي صحيحة المأخذ صحيحة التطبيق، وأن يبني عليها كل إنسان ما يستأنف من أمره؟.

والذي أستطيع الجزم به الآن أن معرفة تجارب الآخرين مفيد وممتع، وأن من التجارب مالا يسعك تجاهله أو تخطيه، ومنها ماهو إرث عام يمكن وصفه بتجارب الأمم ـ لست أعني كتاب مسكويه ـ ومنها مالا تأخذ منه أكثر من متعة الاستماع أو النظر وتزجية الوقت، ولكل واحدة من الناس مريغ يذهب إليه، ويكفي المتأمل أن من العلوم ماهو مؤسس على هذا الباب كالطب.

ومصداقا لما تمثله التجارب من أثر عميق في حياة الإنسان، أبين بمثال واحد ما أحدثته لدي بعض الوقائع والأحداث، من مبدأ معين حاولت التزامه ـ قدر المستطاع ـ في الحكم على كثير من الأعلام والكتب ... .

لا تعتمد على الآخرين في الحكم على الأشخاص

وكذلك الأمم والكتب ...

وكم انتفعت بهذه البصيرة ـ هي كذلك عندي ـ التي كانت ثمرة أحداث وأحداث، وكم تغيرت نظرتي حين أعملتها في تراث كثير من الأحياء والأموات، بل كم تغير اعتقادي عن بعض أعمالهم وعلمهم وأدبهم وفكرهم ... ، فطويت ماضيهم من ذاكرتي بقناعات جديدة لم أعتمد فيها إلا على آثارهم، كالمعري والتوحيدي وعبدالحميد الكاتب والصاحب ومحمد عبده والعقاد والمهاتما غاندي والرصافي ومالك بن نبي ... ـ ولست أتحدث هنا عن شريك بن عبدالله أو عمرو بن شعيب أو قتادة أو عكرمة أو المصلوب ... ـ وككتاب الأغاني والمساكين ورسائل الصابي والمقامات والوسيلة الأدبية والإلياذة والكوميديا والفردوس المفقود ورسالة الغفران ... ، وأما الأمم فلك أن تنظر ما كتبه صاعد أو ديورانت أو لوبون ... ، ثم إن قدر لك وسافرت أو خالطت تلك الأمم عن قرب، هل ستبقى تلك المخيلة كما هي حين استودعت ما قرأته حماطة جلجلانك؟.

وأما أهل زماننا .. فصن سمعك عن أحكامهم كصونك لسانك عن أعراضهم، فكم قيل لنا عن فلان بأنه ثقيل فإذا به من أخف الناس روحا، وكم حدثنا عن زماتة فلان فإذا به من أظرف الناس، وكم زوق لنا علم فلان فإذا به من أجهل الناس، وكم نحتت أثلة مستور فإذا به من أتقى الناس وأوفرهم أخلاقا ... ، ففي مثل هذا لا يحل لك التقليد إلا للضرورة، بل كن مجتهدا مطلقا في هذا الباب، فليس من مطلب سوى النظر في آثار القوم وكتبهم.

أظن أني عكست القضية فأتيت بالثمرة وتركت الشجرة، ولكن كانت هذه لهفة العجلان اقتضاها الحال في ساعة متأخرة من الليل، فأرجو المعذرة من أخي الكريم الأستاذ عبدالله على هذه المداخلة وإن كنت أردت بها حث الجميع على المشاركة، ولي عودة إن يسر الله للسير وفق ما رسمه منشئ بيان هذه الصفحة حرس الله مهجته.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(إن الكريم لا تعلمه التجارب) ليست من كيسي، وأظنها لابن سيرين أو الزهري والله أعلم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015