ولعلَّ شكَّه في الشركة المصدِّرة للدجاج تعدَّاه إلى شكٍّ في جودة ميزانه .. فصار يشكُّ في دقَّة عمل يدَيه عمل الميزان .. يضع الأولى في اليمنى والأخرى في الأخرى ثم يراوح بينهما ويهزُّ رأسه ويقلِّب عينيه ويقطِّبها .. ثم يضعهما جانبًا .. ويأخذ اثنتين ..

وكأنَّ تقطيبه عينيه يشبه ما ذكره أبونواس عن الفضل:

رأيتُ الفضلَ مُكتئبًا /// /// يُناغي الخُبزَ والسَمَكا

فَقَطَّبَ حين أبصَرَني /// /// ونكَّسَ رَأسَه وبَكَى

فلمَّا أن حَلَفتُ له /// /// بأنِّي صائمٌ ضَحِكا!

لكن صاحبنا كان يناغي الدجاج ..

وهكذا .. كلما انتهى من وزنها، واطمأنَّت نفسه إلى رجحان بعضها على بعضٍ أعاد الكرَّة .. بتسلسل حوادث لا آخر لها!

حتى صار محتارًا لا يدري أين وجه الحق!

قال لي البقَّال: هذه حالُهُ من ساعة! وحجَّته أنَّ له الحق في التوثق من البضاعة؛ لأنه سيدفع مالًا تعرَّق له وكد، وقطع به القفار وجد، فكيف يعتق من كيسه دون حساب وعَدِّ .. وعدٍّ .. وعَد .. !

لا ينفذُ الزِّئبق من كفِّه /// /// ولو ثقبناه بمسمارِ!

لم يكمل حديثه حتى وقعت عينا الشيخ عليَّ متقدة شررًا .. إذ أحسَّ بمؤامرة تدور خلفه، وشكوى ظالمة ترفع ظلمًا ضدَّه ..

نظر إليَّ نظرات حقد ممزوجةٍ بازدراء وغضب واستياء و «تهديد من اللقافة» .. وأشياء أخرى قد لا أستوعبها!

كانت تلك النظرات النارية الخاطفة رسالة كافية «لأقلب وجهي بأسرع سرعة» وانصرف راشدًا سالمًا .. فمالي وللدجاج .. فمن يدري لعل الشركة كاذبة مخادعة .. ولعل الشيخ محق .. ولعل .. ولعل .. أعلل النفس وأخادعها بلا مقنع!

مع ضميمة أن عيني لم تغفل عصاه التي جثمت بجانبه كأنها ليث هصور، أوكلب عقور .. والتي يتوعَّد بها من يتطفَّل على عاداته المُثْلى مِثْلي .. ولا أدري هل علا بها هام أحدٍ قبلي؟!

وبعد دراسة الأمر وتقليب الرأي .. وعلى كلٍّ .. فلستُ حقل تجربةٍ لردَّة الفعلِ .. من العصا وصاحبها ..

«والسلامة لا يعدلها شيءٌ» ..

وقد قال أبوالطَّيب:

الرأيُ قبل شجاعة الشجعان /// /// هو أول وهي المحل الثاني

فلِمَ أقبل بالمحل الثاني؟! وأنا غير عاجزٍ عن المحل الأول!

ولم أر في عيوب الناس عيبًا /// /// كنقص القادرين على التمامِ

نظر إليَّ البقَّال منتظرًا «فزعةً» وردَّة فعلٍ على بليَّته .. ولكن هيهات!

فـ «تجارب الحياة» أثبتت وأثمرت أن لا حلَّ مع لئيمٍ شابَ في بخله .. فأي موعظةٍ أونصيحة غيرمحفوفة بالمخاطر ألقيها على مثله ..

قلتُ بلا تردد: أعانك الله على هذه المحنة! وشدَّ على يديك!

قال: وأنتَ؟!

قلت: أنا .. ! أنا .. ! أسأل الله أن يعينني على الهرب .. والحمدلله أن وهبني عقلًا أرشدني للهرب من الخطر ..

ألقى الصَّحيفة كي يخفِّف رحله /// /// والزَّاد حتى نعله ألقاها!

قال البقَّال: يا فلان .. حاول مرَّهْ تانيهْ ..

ابتسمت .. لألملم خجلي من جُبني وأغطي بهذا وجه ذاك ..

وقلت: إن شاء الله .. لكن .. مرَّهْ تانيهْ!

فغر فاه .. وقبل محاولة ثانية منه درت بجسدي 180 درجة ..

أرسلت إليه على عجلٍ «السلام عليكم» .. واختفيت ..

وبعدُ .. هل ترجَّح عندكم تذييل كتاب على بخلاء الجاحظ؟

أوأزيدكم!

ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[31 - May-2010, صباحاً 01:42]ـ

ليس وجهاً واحداً أن يكون ذلك بخلاً وإنما هو عند بعضهم من الحزم وقد سئل سلفه ما الحزم؟

فقال: سوء الظن بالناس ..

وسواء عددناه حزماً أم لا = فهذا باب والبخل باب آخر وقد يجتمعان وقد يفترقان ..

ـ[عدنان البخاري]ــــــــ[31 - May-2010, صباحاً 05:22]ـ

وإن لم يُعد حزمًا فما هو؟

أمن الحزم فقط سوء الظن بالنفس في حسن التصرف بالمال؟ إلى حد (الوسوسة)!

لا شك أن من ابتلي بطرفٍ من سوء الخلق يعذر نفسه بمثل هذا ويُلقِي باللَّائمة على مخالفه .. فهو يراه مسرفا مبذرا .. لا يعرف قدرا لمال.

أما كون هذا (بابا آخر) غير البخل فليس بصحيح .. قد يكون من البخل، (وقد يكون من الوسوسة في الحزم مع الناس .. ثم هذه الوسوسة مردها إلى البخل!)

ـ[أبو الوليد التويجري]ــــــــ[31 - May-2010, صباحاً 06:33]ـ

ماشاء الله!

ليس لي مكان بين هذه القامات إلا أن أكون منصتًا لعذب الحديث، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.

ـ[أبو القاسم]ــــــــ[31 - May-2010, صباحاً 10:26]ـ

شكر الله للشيخ عدنان البخاري إسهامه بهذه المشاركة الأدبية اللطيفة

غير أني لا أرى وجها لوضع كلمة "فزعة" بين قوسين بمايوحي للقاري أن استعمالها

بهذا المعنى غريب عن الفصحى

قال المبرد في الكامل: (الفزع في كلام العرب على وجهين:

ما تستعمله العامة تريد به الذعر والآخر الاستنجاد والاستصراخ من ذلك قول سلامة بن جندل:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزعٌ ... كان الصراخ له قرعَ الظنابيب

يقول: إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته ... )

والله الموفق

ـ[عدنان البخاري]ــــــــ[31 - May-2010, صباحاً 11:36]ـ

جزاكم الله خيرًا يا أبا القاسم على تعقيبك بهذه الإفادة النافعة، وأسأل الله تعالى أن يرفع عنك الضر، ويجمع لك بين العافية والأجر.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015