فرغ الإمام من صلاة الفجر , وعصافير الحرم تطير وتصوّت فوقنا (تلك التي خدعونا ونحن صغار وقالوا: إنها لا تطير فوق الكعبة) , فقال لي صاحبي: ألا تحب أن ترى الشيخ الذي حدثتك عنه فتسلم عليه وتستمنحه موعدا للقراءة؟ , فقلت: اللهم نعم (هذه ترجمتها بالفصحى , لأني قلت له وقتها: ايوه , وهو أيضا حدثني بنحو ذلك) , وذهبنا إلى الشيخ ..

وجهه المضيء بنور الطاعة , وشيبته البيضاء التي تشي ببياض قلب صاحبها , وتجاعيد السنين السبعين , ملأت قلبي مهابة له وإجلالا , دنوت إليه وصافحته , عرَّفني صاحبي إليه (طبعا لم يقل في تعريفه بي: سماحة الشيخ العلامة ... , لأنني لم أكن قد أصبحت كذلك وقتها) , وطلبت إليه - متفاصحًا أقلقل الحروف في فمي لأشعره أنني طالب علم ذو سابقة في البصر بالعربية - أن يهبني وقتًا أقرأ عليه النحو , فيا لله ما أعذب نغمته في أذني وأنا أسمعه ينطق بإجابة مطلبي , " تجيء بعد صلاة الظهر هناك " قالها وهو يشير بيده إلى موضع ناحية باب المدينة ..

كان المسجد يغص بطلبة العلم , من المغرب والجزائر وليبيا ومصر والسودان , لهم دوي وهينمة وزجل , قبل أن تفرقهم أمور سيرويها التاريخ بعدنا , سقيا لتلك الأيام ..

ذهبت بعد صلاة الظهر إلى ذلك الموضع فألفيت الشيخ مضطجعا , فجلست إلى سارية قريبة أنتظر التفاتة منه , فلم يفعل , وطال انتظاري حتى تبينت أن الشيخ قد نام , فحملت نفسي وعدت إلى البيت , لن أزعم أنني عدت حزينا باكيا لفوات الدرس كما يقول في مثل هذا بعضهم , لأنني أعلم أنني سأعود في الغد إن شاء الله ..

وفي الطريق لقيت أحد طلبة العلم ممن أعرف من طلاب الشيخ , فحدثته بما جرى , فعاتبني وقال: هلا أيقظته من منامه , فأنكرت في نفسي مقالته بما استقر في فطرتي من مجانفة هذا الفعل للأدب , وتململت ولم أظهر من الموافقة على قوله ما يعجبه , فزاد من لومي وذكرني ووعظني وتلا علي ما تيسر له من النصوص والأبيات التي تحث على الصبر على العلم ..

الحق والحق أقول: إنه خدعني عن فطرتي وعقلي , فصدقت مقاله , وعدت في اليوم الثاني لأجد الشيخ مضطجعا نائما في موضعه كما كان في أمسه , فهممت أن أقوم وأرجع إلى البيت , لكن حديث صاحبي كان قد عمل عمله في خداع عقلي وفطرتي (ألم أذكر ذلك قبل قليل؟) , فاقتربت من الشيخ ورفعت صوتي بالسلام , فلم يرد , فتجاسرت ولمسته لمسا خفيفا فلم ينتبه , فتحامقت وهمزت رجله برفق , فاستوى جالسا ..

نظر إلي بعينين كأنهما لسانان ناطقان (هل رأيت عيني ابن عثيمين حين يحدق بهما في عيني من يحاوره؟ كأنهما هما , وأظن عيني ابن تيمية كانتا كذلك) , فتلعثمت وسلمت , فرد السلام , فقلت (ببراءة ابن السبعة عشر ربيعا): أريد القراءة عليك , فقال: ألم ترني نائما؟ فقلت: بلى , وقد كنت أكره أن أوقظك ولكن صاحبي أمرني أن أفعل! , فقال: أإذا أمرك أحد بسوء الأدب تطيعه؟! , ثم أنشد:

ومن بشيخه استخفَّ يبلى .. بقصر العمر وأن يكلّا

منه لسانه إذا ما احتضرا .. عن الشهادة وينسى ما قرا

ها قد بدأ الدرس (كذا قلت لنفسي) .. أخرجت أوراقي ورحت أكتب البيتين يتنازعني - كتوجه العاملين إلى معمول واحد - شعور بالخزي من عملي وسوء أدبي وشعور بالفرح لهذه الفائدة , وكنت حينها مولعا بتقييد الأبيات الحاصرة ومقطعات النظم الضابطة للمسائل (عادة تخلصت منها كذلك لاحقا).

غضب مني الشيخ يومها , فما زلت أراضيه وأريه من الصدق في الطلب بعد ذلك سنين عددًا حتى صرت من أحب طلابه إليه , وعاهدت نفسي يومئذ أن لا أترك ما علمته بالفطرة وأدركته بالذوق واختبرته بالعقل إلا ببرهان يقنعني بفساد هذين وتلك , ولو خالفني أهل الأرض (هل لاحظت أنني قلت: " خالفني " , ولم أقل: " خالفت "؟ هذا من تواضعي الذي فطرت عليه).

فحاذر أيها القارئ أن تغلب على عقلك وفطرتك وذوقك , ولا تفرط في إحسان الظن بكل من توسم بسيما العلم , فإن بعضهم أعيا من باقل , وأحمق من الممهورة إحدى خدمتيها , وأفسد ذوقا ممن يطرب لشعر العقاد.

وحسبي هذا من التماس العظة , فإني أريد أن أستبقي لك - أبا أحمد - ما تقوله إن سمت بك همتك يوما لتكتب في سيرتي كتابا وتعلق على هذه القصة الجليلة ..

ـ[عبدالرحمن بن طالب]ــــــــ[30 - May-2010, صباحاً 12:09]ـ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015